أبواب

خادمةُ الحليب

ريم الكمالي

مقولة الفيلسوف نيتشه: «ليس الفنان هو المبدع بل الحقيقة»، تُذكرنا بلوحة «خادمة الحليب» للهولندي فيرمير الذي عاش في القرن الـ17 الميلادي، حين صور لوحة تُعبر عن روحٍ معذبة تعيش مأساة الحياة، تعمل خادمة، ليتجاوز فيرمير المشهد الذي جمّدهُ إلى التعبير الفني لمكنونه الإنساني، والخروج من فكرة العامة عن الخدم وعن مدى سطحيتهم وسلوكهم المشين، فهم مرفوضون ومتهمون بشتى الاتهامات.

• بحثٌ خفي في مشهد عابر يتحول إلى فكرة مستنيرة بأن الفن والجمال فكرة واحدة.. استفزنا فيرمير بخياله وإحساسه الجمالي العالي في أن الرسم ليس شكلاً، حتى استقر المفهوم في فكره الباطن وفلسفته الحرة، ليصنع شيئاً مضيئاً وباقياً.

ورغم أن عصر فيرمير كان ذهبياً، حيث الرفاهية في هولندا، لكن إنسانيته العالية دفعته لرسم ما لا يُرى في ذلك الوقت، أو ما لا نريد أن نراه لمشهد عابر يظهر ويختفي، لكنه حقيقي، فيلتقطه كمبدع، ويستجيب لنداء الطبيعة ولروحٍ منسية وبنيةٍ أخرى ولأهداف نبيلة تتسع الكثير في رؤيتها المبطنة وفلسفتها الخفية، تكشف خبايا النفس بضمير شفيف في قضايا إنسانية صارت تَعْبُرنا دون اهتمام.

بعد زيارتي إلى متحف ريكز في لاهاي بهولندا في صيف 2005، ورغم أن المتحف كان في حالة ترميم حينها، لكن ذاك لم يمنعني من رؤية الكنوز من اللوحات الفنية التي تحمل بين أطرها تفاصيل شتى لا تستطيع كمشاهد أن تجعلها عارضة تمر أمامك مروراً بلا تأثير، فهي خالدة لجوهر ما تحمل من معنى، كما هي «خادمةُ الحليب» التي استوقفتني كثيراً.

ثيمة اللوحة في ظاهرها أن خادمة تصبُّ الحليب في آنية من خزف.. يبدو المشهد بسيطاً لا دهشة فيه، لكن بالقراءة المبطنة تبرز العناية الفائقة للخادمة التي رفعت أكمامها الغليظة بعد أن أسقطت وشاحها على طاولة الحليب، ووازنت أكتافها، بانت وكأنها في غاية التركيز، غارقة في ما تعمل، لتمنحك اللوحة فجأة الشعور بالفضيلة والعمل المخلص لمجرد سكبها للحليب.

حينها اختلف المعنى وتحول من السطح إلى الباطن، وأصبح فيرمير الفنان إنساناً مخلصاً في زمن كانت ولاتزال الخادمة فيه متهمة، رؤية تنطلق من مفاهيم متجذرة في معظم أنحاء العالم وعلى مدى التاريخ حتى الآن.

تتوسع القراءة المبطنة في اللوحة في الكثير من الزوايا.. الجدار القديم بمساميره المخلوعة، فهل الخادمة بفضيلة العذراء مريم، ومسامير صلب المسيح خلفها؟ وهل تقوم بسكب الحليب على الخبز الجاف لِتُليّنه، أم لإضفاء النكهة؟ وهكذا يأخذ الخيال مجراه في تفاسير تغلب عليها الإنسانية في مدى عناية الخادمة بما تقوم.

غيّر فيرمير الفكرة، وأبرز فناً حقيقياً بعد التقاطته لحقيقةٍ يجب أن تكون عُهدة في يد الفنان، وكأنه مارس المونولوج الباطني، أي حوار قامَ بين ضميره كرسام، وبين الخادمة، أي ضميره كإنسان بعاطفة متناهية.. في حديث طويل يحتكر فيه الكلام، ويرسم وجه الخادمة وهي تزم شفتيها من التركيز في السكب، مظللاً نصف وجهها الآخر، كي لا نرى تسبيلة عينيها.. أليست النظرة كاشفة؟ أسقط نظرتها على الحليب المسكوب، فزادت عناية الخادمة بالعمل.

كما أننا لم نعد نطارد حياة الأسى في وجهها بعد أن استخدم الضوء بشكل عبقري، لتظهر الخادمة مدى عنائها من الأعمال المنزلية والقيمة الأخلاقية في السكب.. ونخرج نحن بالفكرة الكُبرى من اللوحة، وهي العبودية الفاضلة.

بحثٌ خفي في مشهد عابر يتحول إلى فكرة مستنيرة بأن الفن والجمال فكرة واحدة.. استفزنا فيرمير بخياله وإحساسه الجمالي العالي في أن الرسم ليس شكلاً، حتى استقر المفهوم في فكره الباطن وفلسفته الحرة، ليصنع شيئاً مضيئاً وباقياً.

نية الفنان هي الحق والجمال وإن كانت قراءة اللوحة مبطنة بإيماءات وإشارات مختلفة.. هذه هي حقيقة الفن وإلا لن يكون الفن حاضراً.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر