أبواب

أم النار.. حكاية حضارة

ريم الكمالي

في عام 1959 علتْ دهشة الفرح وجوه أفراد البعثة الدنماركية في جزيرة أم النار، فثمة شعاع ضوئي تاريخي يخرج من المدى المعتم الغائر والغابر من أسفلِ أرضِ جزيرةٍ صغيرةٍ منسيّة واقعة في جنوب شرق العاصمة أبوظبي، ما حدا بأفراد البعثة إلى تكثيف جهودهم، بعد أن تكشّفت لهم أحجارٌ منحوتة بجمال من فوق تل، وهكذا أخذوا يواصلون الحفر بإصرار وبمزيد من الفرح ولمدة ثلاثة مواسم متتالية لفحص تلك القرية القاحلة، حيث لا آبار أو بساتين، فتضاريس الجزيرة مرسومة بظمأ.

تزداد نشوة المعرفة في عيون الباحثين تحت سماء مشمسة فيستغرقون في تفحّص الجزيرة كلها، وتخرج من أسفل الأنقاض المتراكمة مئات المدافن الحجرية المتقنة الصنع والمنقوشة على عمارة مميزة تعود إلى العصر البرونزي (2700 ـ 2000) قبل الميلاد.

• تزداد نشوة المعرفة في عيون الباحثين تحت سماء مشمسة فيستغرقون في تفحّص الجزيرة كلها، وتخرج من أسفل الأنقاض المتراكمة مئات المدافن الحجرية المتقنة الصنع والمنقوشة على عمارة مميزة تعود إلى العصر البرونزي (2700 ـ 2000) قبل الميلاد.

وبحذر شديد أزالوا غبار المدافن لتخرج بأشكالها الدائرية الكبيرة، وبقبب حجرية، مدافن مقسمة إلى غرف، كل منها يضمُّ هياكل بشرية عدة، غرف بمداخل خاصة ومنحرفة الشكل في ذلك العراء.

كانت مفاجأة بازغة، إذ قام الفريق الأثري بالتحري والولوج في حياة المستوطنة التي كانت قائمة على جزيرة لم تخرج منها أخيراً سوى مصفاة للبترول سميت بمصفاة أم النار، لكنهم الآن أمام مقبرة تلتهمها الشمس، زخارف على الحجر ورسومات لكائنات مختلفة، وتفاصيل تفسّر الاعتقاد الديني لمن استوطنوا هذه الأرض.

في عمق المدفن عظام متناثرة لطيور الزقة الطويلة الجسد، والتي لا تعيش ولا تبقى إلا عند مصادر المياه الحلوة، وبدأب استنطقت البعثة الدنماركية وجه الحياة في مجتمع قديم ومنسي، دخلوا مصورين وناقبين ليخرجوا بأدوات الحرب المستخدمة آنذاك في التجارة التي كانت تصل إلى بلاد وادي الرافدين والسند، لكن الحراب وأدوات الصيد كالصنارة لم تكن مشابهة لمثيلاتها في الحضارات الأخرى، بل كانت من النوع الذي يصيدون بها الأطوم، وهو عجل البحر الذي يشابه خروف البحر، والمنقرض حالياً في الخليج العربي، ويبدو أن سكان أم النار آكلي الأطوم استخدموا جلده وزيته لوفرته آنذاك.

استمرار عمليات التنقيب كشف عن كهوف وهياكل وبنيان تُخبِر عن حياة الأسبقين بتفاصيل مختلفة ضمت مشابك الشعر الذهبية، وعقوداً ومجوهرات ودبابيس ذهبية مزخرفة بدقة ومصنوعة بمهارة.

ورغم الهياكل الكثيرة المبعثرة، التي امتدت إليها أيدي اللصوص، لكن المدافن لم تخلُ من الأسلحة الرائعة الصنع التي تشي بمهارة صانعيها، فالأسلحة تزخر بالنقوش والزخارف. أما الأواني الفخارية فكانت حمراء ومنقوشة، ولا تشبه زخرفتها الفخاريات الأخرى في العالم القديم آنذاك، بل غير معروفة من قبل.

كذلك البيوت المتلاصقة والممتدة بمساحات كبيرة من غرف ومجالس لا تشابه الأمكنة الأخرى في العالم، والحجرات الداخلية للمدافن وطريقة بنيانها، كل ذلك سلط الضوء على ثقافة السكان الأوائل ونمط حياتهم في الصيد وصهر النحاس وغيرها.

ثم بعد العمل الشاق للبعثة على هذه الجزيرة الصغيرة وتسجيل كل موجود، وتحليل المبهم، تبين أن أم النار كانت منفذاً تاريخياً مهماً آنذاك بين بلاد الرافدين ووادي السند.

جزيرة خرجت منها حضارة بعمائر تمتد لحضارات لم تكن معروفة من قبل، ولأنها لا تشابه غيرها من الحضارات القديمة، فإن البعثة الدنماركية اضطرت إلى أن تطلق عليها حضارة أم النار، وتسجلها عالمياً تحت هذا المسمى.

 Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر