أبواب

أختام.. الخليجي الأول

ريم الكمالي

قديماً؛ قبل الأديان، حين كان الإنسان في الخليج العربي يؤمن بتعدّد الآلهة ومعتقدات أخرى، كان جُلّ اهتمامه ينصبّ على الفنون من رسم ونحت ونقش وحفر.. ورغم تنقّل روحه في فضاء هذا البحر الذي سَبّبَ له الظمأ والخير معاً، غير أنه كان بارعاً في فن التشكيل. ولا يقتصر هذا على التماثيل المحفورة، أو الأواني المنقوشة، أو أدوات الزينة، بل الأختام أيضاً، تلك الهوية التي انتقل معها حيثما كان.

• فن يدوي دقيق وبارع في الصنع عبّر عن حياة سابقة للخليجي الأول في عمله وعباداته وحياته الاجتماعية والعاطفية والدينية والتجارية والاقتصادية والسياسية.. والأدهى من ذلك، أنه لا تشابه بين الأختام كلها، ليتفرد كل ختم بصاحبه وكأنها بصمة اليد في هذا اليوم.

فن الأختام دقيقٌ وأصيل، وقد قرأتُ الكثير عنها وعن مدى أهميتها، وقد استوقف خيالي صانعها.. فأيّ فن وصبر كان يحمل صانعو الأختام في روحهم؟ وأيّ خيال خصْب للخليجي الأول في أن يطرح كل أفكاره المتداخلة في ختم لا يتجاوز حجمه نصف إصبع اليد، وبأشكاله المختلفة من أسطواني ودائري ومربع وذي وجهين.. يبدع عليه رسومات تدل على صاحبه، موضوعات شتى، صور لها دلالات وعلامات ورموز، ليصبح موضوع الختم فوق هذا الحجر الصغير هوية حامله، يُخرم ويُثقب لتعلقه المرأة في جيدها وموضع قلادتها، أو يضعه الرجل في معصمه.

نقش صانعو الأختام لوحات محفورة بالعين المجردة، بين أن تُرى وألا تُرى، إلا إذا دُحرج وجه الختم الأسطواني فوق طين أو شمع لتخرج رسومات هائلة ومعبرة، بعد أن كانت معكوسة وصغيرة جداً حفرت على حجر صابوني أو طين، أو أحجار كريمة تدل على مكانة حامله، لها دلالات ورموز في مربع بخطوط لمالك أرض أو زرع، ومثلث يرمز لأنثى، قارب وسمكة لصياد، سفينة وبضائع لتاجر.

فن يدوي دقيق وبارع في الصنع عبّر عن حياة سابقة للخليجي الأول في عمله وعباداته وحياته الاجتماعية والعاطفية والدينية والتجارية والاقتصادية والسياسية، والأدهى من ذلك، أنه لا تشابه بين الأختام كلها، ليتفرّد كل ختم بصاحبه وكأنها بصمة اليد في هذا اليوم.

وبما أن الأختام مميزة فإن آلات الصانع كانت فريدة من نوعها ودقيقة، من مثاقب برؤوس مختلفة، مقابض ناعمة من عظام الأسماك، أدوات تعطي انطباعاً عن التقدم في حرفةٍ نَظمتْ حياة الخليجي الأول، ليقوم الختم مقام جواز السفر في الوقت الحاضر.

خرجت هوياتنا القديمة من القبور بعد حفر الآثاريين لها في مختلف مدن الخليج وجزره، حيث قامت حضارات الخليج الأولى، من أم النار ودلمون وماجان وتاروت وشوش وفيلكا.. صُنعت بدقة ومستوى فني رفيع، وموضوعات مختلفة للسماء في أشكال خرافية ونجوم ونظام الحساب وطيور.. وفي الأرض أنواع الأسلحة وآلات موسيقية وأشكال خزفية وجلسات حميمية.. كذلك عوالم الغيب من جبروت الشر وانتشار الخير.

ظلت الشمس المقدسة في مركز الختم، أما ما حوله فيبرز هويته، يُعَرّفُ به وإن مات في مجاهيل الأرض أو مسالك البحر القديمة، في عصر برونزي لا تكنولوجي.

التعبير عن الوجود الإنساني للخليجي الأول مردّه عند صانع الأختام الذي أنكرَ ذاته رغم ما ترك من إرث دون ختم أو تصديق لعمله.. لم أستطع يوماً أن أتجاهله، لقد عبّر عن ثقافة بأكملها وعطّل نفسه، بل رفض الإقرار بإنجازه.. والآن وبعد استعادة إرث الأختام من ركام التاريخ المُهمل ومنذ قرون.. مصدر الباحث الأول، تاريخ حافل بالفن والتجارة واليوميات والعقائد والأشواق، لكن هذه الأختام لم تستلهم حتى الآن مناهج الدرس أو مواهب الأدباء أو فناني التشكيل، ولا حتى الصناعات الكبرى في التعريف عن جانب عظيم في ثقافتنا القديمة نُعرِّف بها العالم، ونكشف تاريخاً منظماً في الخليج الذي نَعْبُرُه ولا نُعَبّرُهُ.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها . 

تويتر