أبواب

احتكار ثقافي

ريم الكمالي

البعض منا مأخوذ باقتناء الثمين والنادر، من كتُبٍ مصقولةِ الورق لكبار المؤلفين، أغلفة ثقيلة ومحفورة ونادرة، لوحات المشاهير من الرسامين، كُنّا نحفظ سنوات الرسم وقصص من لمس أحبارها، والآن نشغل أنفسنا في مَنْ اقتنصها.

تائهون في المنافسة على امتلاك القطع القديمة (الأنتيك)، أثاث وحاجيات لملوكٍ مضوا، ومخطوطاتٍ تنتمي إلى الزمن الغابر يضعها في الخزائن المؤطرة، وكأنها أحجار ولآلئ، يجالس مقتنياته للشعور بملكية التاريخ والحرف، فقد أصبحت بين يديه هو لا غيره.

• كل هذا السفر في الدهشة والجمال لا يتطلب منك سوى تذكرة دخول بثمن رمزي، ناهيك عن الحدائق المجانية، والمحاضرات التي تُقدّم في مهرجاناتها الأدبية بالمجان، هذا يعني أن الثقافة عطاء، والعطاء مطلق، وأن المعرفة زينة ثمينة، والثقافة بأكملها لَكَ ولي ولنا جميعاً.. نستمتع بها، نفهمها، لا نُسيطر عليها.

هاجس قائم على شهوة الاقتناء واستعراض الملكيات الخاصة، يتعاطاها مادياً وهو يجهل أحياناً قيمتها الفكرية أو الفنية، حتى إذا تفاقم الهوس، وتجاوز حدود قدرته على الاعتناء وخشي عليها، صار إلى تأمينها في مصرف أو منزلٍ بحارس، لا يحظى برؤيتها أحد سوى الأصدقاء والأقارب.

ومما لا يُخفى أن جامِعِي هذه التُّحَف والنوادر من المزادات والأسواق وغيرها هم مستثمرون، يتاجرون بالفن، وهو بالمناسبة فعلٌ مشروع ومقصده مفهوم، لا يرفضه أحد ولا ينتقده، وإن ادعى أنه لإرضاء حاجاته الروحية والجمالية، وهي في المحصلة محاولة لتحقيق ذاته عبر فعل كان يحبه.

لكنْ ثمّة فرق كبير بين من أسلفنا وبين عاشق الفن، وإن لم يَتَمَلك لوحةً أو مخطوطة واحدة، يضرب في الأصقاع مسافراً، غايتهُ رؤية قطعة فنية عميقة ومؤثرة أو خطوط تحكي قِدم الدّهر، يستمتع بالاطلاع عليها، يا لهُ من عاشق! يدفع قيمة مشقة السفر من أجل الشعور بالدهشة، تلك الدهشة الغائبة. يستمتع ويكتب، يصور، وكل ما يدفعه هو قيمة مَشَقَة السفر، هكذا بنيّة جمالية خالصة.

الانعكاس السلبي لهوس تجار هذه الفنون والأدبيات أنهم يضيّقون على محبّي الفن فرصة الاطلاع باستحواذهم على كل ما هو نادر وذي خصوصية، دون الأخذ في الحسبان أن تكدّسها لديه لن يمكّنه من التمتع بالكم الهائل لِقِطَعٍ كثيرة بين زحمة أملاكه، ما قد يضطره الى اللجوء لحفظها في صناديق لا تتناسب وقيمتها الاعتبارية، أو ربما أودعها في ظلمة مخازنه، ولأنهُ ابتياعٌ تَمَلُّكي لا روحي، فإنهُ إذا ضاق بها لجأ إلى بيعها بغية الكسب المادي، ولربما تخلّص منها بتقديمها إهداءات لمن لا يستحق ربما.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد يسهم الموسرون من عشاق الفن في بناء متاحف لأوطانهم، يضعون فيها كل المقتنيات، سواء لهم أو لغيرهم، مع إيضاحات أسماء المساهمين وجهودهم عرفاناً وتقديراً.

جميلٌ أن يرى الناس ما تراه، وينتشر الجمال برؤيتك وقُدرتك، بدل أن يبقى كل شيء محاصراً في قبضتك. حب الامتلاك والخوف وُلِدَ فينا منذ أمدٍ بعيد، حتى تَكدَّس، مُحتجزاً فينا الجمال والفن والذائقة. الفنون والآداب مشاع للجميع، وليست ممتلكات خاصة نخاف عليها من الحسد، ونتباهى بها أمام مَنْ يعتقد ذلك. هي ثقافة تحمل في طياتها فكراً وحباً طال به الزمن حتى تَكوّن، ومكانها ليست الأدراج المؤصدة إشباعاً لعقدة الـ«أنا».

معروفٌ أن الأعمال الفنية والإبداعية ثمينة، ليس لبُعدها الزمني فقط، بل لما فيها من معانٍ عميقة ومختصرة تُقرأ أثناء المشاهدة. كل هؤلاء المبدعين يستحقون الاحتفاء بأعمالهم وتحليلها، لا الاستحواذ عليها بالمال لتملكها وحدك.

كل هذا السفر في الدهشة والجمال لا يتطلب منك سوى تذكرة دخول بثمن رمزي، ناهيك عن الحدائق المجانية، والمحاضرات التي تُقدّم في مهرجاناتها الأدبية بالمجان، هذا يعني أن الثقافة عطاء، والعطاء مطلق، وأن المعرفة زينة ثمينة، والثقافة بأكملها لَكَ ولي ولنا جميعاً.. نستمتع بها، نفهمها، لا نُسيطر عليها.

Reemalkamali@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها. 

تويتر