أبواب

جهاد هديب يختتم مخطوطة الحياة

علي العامري

رحل الشاعر جهاد هديب، بعدما خاض جولات من النزال مع المرض، رحل لكن صوته الهامس لايزال في الممرات وبين رفوف الكتب، إذ إنه انتصر في الجولة الأولى على السرطان. وحين التقيته في معرض أبوظبي للكتاب في شهر مايو الماضي، بدا أنه على عتبة التعافي، وكان يتحرك بين أجنحة دور النشر، ويلتقي أصدقاء جمعهم المعرض، ليحتفوا بعودة الشاعر منتصراً على المرض في جولته الأولى، بعدما تعالج في عمّان. وأخبرني بأن الأطباء فوجئوا بسرعة تجاوبه مع العلاج الإشعاعي، ومع جلسات قليلة من العلاج الكيماوي، كما قال إن المرحلة المقبلة ستكون مكرّسة للتخلص من «رواسب» الأشعة والكيماوي.

• حياة الشاعر جهاد هديب كانت مخطوطة مكتظة بالإشارات، بدأت في ولادته «عام النكسة» 1967، واختتمت بعد بلوغه 48 عاماً، كما لو أنه يشير في رحيله إلى «عام النكبة»، فولادته ورحيله يشيران إلى فلسطين التي كانت الوشم العميق في روح شاعر يحب الحياة.

كان الصديق هديب شجاعاً منذ البدء، حين أعلن صراحة إصابته بالسرطان من دون مواربة، أو تمويه، وقد سمّى الأشياء بأسمائها، وكان يطلع أصدقاءه على حالته ومراحل علاجه أولاً بأول، وكان بمعنويات عالية، على الرغم من ضراوة المنازلة مع مرض يدعى السرطان الذي فتك بكثيرين. لقد واجه جهاد هديب المرض الشرس، ونجح في هزيمته في الجولة الأولى، وعاد إلى أبوظبي ليكتب في القسم الثقافي في جريدة «الاتحاد» مجدداً. وكان الشعر يمنحه مزيداً من الصمود، إذ كان يواصل كتابة القصائد، ويواصل العمل على ترجمة قصائد لشعراء كولومبيين.

لكن، هل كان الشاعر يحس في قرارة نفسه بشيء آخر، هل كان يرى أن إغماضة عينيه ستكون قريبة، هل حدسه كان يقول له ما لم يقله هو لأصدقائه، هل كان يلمس عتمة باردة في طيات نص الحياة. أقول ربما كان ذلك، لكنه لم يبح به علانية، كما لو أنه كان يحرص على طمأنة أصدقائه ومحبيه، في حين يتصاعد الألم والقلق في روحه الموّارة بالحياة. كان يقرأ كتاب النهاية بصمت صوفيّ، وكان يعالج قلق الأصدقاء، حتى أننا تفاءلنا كثيراً، خصوصاً حين التقيناه في أبوظبي، ثم في الشارقة للمرة الأخيرة.

وخلال فترة مرضه أرسل لي مخطوطة لقصائد من كولومبيا، واظب على ترجمتها، طالباً مني كتابة مقدمة للكتاب، وفي الوقت ذاته أرسل مخطوطة مجموعته الشعرية الأخيرة إلى الصديق الشاعر قصي اللبدي. وفي المخطوطة الكولومبية، تقول الشاعرة ماريا مرسيدس كارّانزا: «تلك الشوارع متاهةٌ، حيث ينبغي عليَّ أنْ أمشي وأعيدَ رسمَ/‏‏ الخطى بخطوطٍ متكسرةٍ على خاتمةٍ سوف تكون كلَّ حياتي».

بعد ذلك، وفجأة عاد إلى الأردن، لتبدأ الجولة الأخيرة من صراعه مع المرض، إذ بدأ بالانتكاس رويداً رويداً، إلى أن وضع النقطة الأخيرة في حياته التي كانت بمثابة مخطوطة مكتظة بالإشارات، بدأت في ولادته «عام النكسة» 1967، واختتمت بعد بلوغه 48 عاماً، كما لو أنه يشير إلى «عام النكبة»، فولادته ورحيله يشيران إلى فلسطين التي كانت الوشم العميق في روح شاعر مفعمة بالحياة.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر