أبواب

الخطاب السياسي العربي

خليل قنديل

يمتلك الخطاب السياسي العربي سمة أدبية ساحرة، استطاعت عبر تدرج التاريخ العربي أن تؤثث بنوع من الأبدية الموجعة لهذا الخطاب، والعمل على تكريسه وتأبيده في تلافيف الوجدان العربي الجمعي، ذلك أننا على الرغم من المساحة اللاحية للفواصل الزمنية بين كل خطاب وآخر، نلحظ أن العربي مازال يتوق إلى الإنشائية والجمل السمينة والرنانة والجرس اللغوي الذي يمتلك قامة إنشائية ولغوية لا تحتمل المراوغة أو حتى طراوة النطق، مثلما نلحظ أن أذن المواطن العربي، على الرغم من كل الفوارق الزمنية مازالت قادرة على الانسلاخ عن الواقع المعيش، والعمل على الالتحاق بالمحاسن البديعية للكلام والنطق والجمل المتورمة باللغة الإنشائية، ذلك أن تأسيسات لغوية قديمة مازال اللسان، والحبر العربي، يستند إليها في خطابه السياسي والإنشائي.

«المقدمة التمهيدية ذات اللغة الجزلة مازالت تحرس خطاباتنا وكأننا خرجنا من القرن الرابع الهجري للتو، وأن المحاسن البديعية التي كانت تحرس النص بلغتها المتورمة مازالت وصية على خطابنا السياسي والاجتماعي».

«لعل المؤرخ النشيط والفتيّ الذي سيقرأ تاريخنا سوف يضرب مقدمة رأسه بيده وهو يُدهش من كل هذه القوة الاحتمالية لأمة استطاعت أن تضحك على نفسها بالوهم إلى هذا الحد».

وعليه فإننا نلحظ أن المقدمة التمهيدية ذات اللغة الجزلة مازالت تحرس خطاباتنا وكأننا خرجنا من القرن الرابع الهجري للتو، وأن المحاسن البديعية التي كانت تحرس النص بلغتها المتورمة مازالت وصية على خطابنا السياسي والاجتماعي.

ومازلنا نلاحظ أن خطابنا كلما اقترب من الإيضاح والبساطة وخلع معاطف اللغة السميكة، شعرنا تجاهه بالخفة وفقدان القوة وعدم القدرة على مغافلة القارئ أو الهيمنة على وجدانه.

كما يمكننا ملاحظة أن بعض صيغنا الخطابية مازالت تحافظ على تماسكها الإرثي الدبق، بحيث إنه يصعب على مستعمل هذه الصيغ أن يفك رباطها الأدبي المتماسك منذ قرون، ولهذا يمكن ملاحظة أن لغة الخطابة العربية يمكن أن تختزل، وذلك بحذف بعض المقاطع والاكتفاء بالصيغ التي تعبر عن مجمل الخطاب، وهذا بالطبع ينطبق على كل المناسبات الحياتية تقريباً، وهذا يعني بالطبع أن لغة خطابنا الرسمي مفرغة من خصوصيتها، ويمكن ملاحظة هذا في مجمل الخطابات السياسية والاجتماعية. كما يمكن ملاحظة أن بعض قادة السياسة العربية يمتلكون سمة الارتجال في خطابهم السياسي مادام البناء السياسي لخطاباتنا يعتمد في الأصل على مثل هذا النهج.

إن الأمة التي تعطلت عن إنتاج مكنونها الحضاري بشكل ملموس صارت تسمح لطحالب الخطابة والبيانات الرنانة باعتلاء منصة النطق والكلام، من دون أن تقف لهم بالمرصاد واحتساب الغش الكلامي.

فأنت إن حاولت أن تمسك بنوع من الخصوصية للخطاب السياسي، الذي يتزامن مع حفل الاستقلال أو أعياد الجلاء، وما أكثرها، فإنك لن تمسك بالفوارق التي تنم عن الاحتفال الحقيقي بمثل هذه المناسبات.

إن الركام الكلامي الذي تخلفه الشعوب العربية على كل الصعد السياسية والمناسبات، يكشف عن تلك المسافة الموحشة بين ما نقول ونحبر أو حتى نعتقد، وقد تحولت تلك المسافة الخرافية في هذا الشأن إلى اختصارات بات يعرفها المواطن العربي بالقول إنها «كلام جرايد».

إن أي محاولة جادة لكشط زبدة الكلام العربي في تاريخنا المعاصر ستجعلنا نمسك بالفراغ اللغوي الذي مازال، على الرغم من كل خساراتنا يحرس هذا المارد الكلامي العربي ويعفيه من دفع أي ضريبة ويسوقه علينا ليل نهار.

والحال أننا ونحن قد عشنا كل ورمنا الكلامي خلال القرنين الفائت والحالي، بتنا بحاجة فعلية إلى التحرك في مسألة النقد الذاتي لخطابنا السياسي كي نكتشف سر كل هذا الدجل السياسي الذي نعيش فيه، ونسوقه على أنفسنا وعلى الآخرين.

إن أي مراجعة بسيطة لضجتنا اللغوية في خطابنا السياسي ستكشف عن الطبيعة الاحتيالية التي نتمتع بها بعيداً عن شقاء المحاسبة وكشف خبايا الدفاتر وقناعاتنا السياسية التي ظلت معلقة في هواء النطق.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر