أبواب

معضلة التعامل مع التاريخ

خليل قنديل

يظل العربي وحين ينوي التحاور مع تاريخه بشقيه القريب والبعيد يشعر بأنه يقترب من منطقة مُكهربة، ذلك أن ما من مسألة في التاريخ العربي استطاع فيها تاريخنا أن يهضمها، وينزع عنها إشكالياتها المستدامة، فمعظم المسائل التي ينطوي عليها تاريخنا العربي تظل توحي لك أنك تتعامل مع لغم مُصمت يصعب التكهن بلحظة انفجاره.

فالبعض منّا مازال يتعامل مع المعطى التاريخي للمنطقة بنوع من الإجلال والتقديس إلى درجة أن مثل هذا التعامل قد استطاع أن يفرز حراسه السريين، الذين ما أن تقترب بقلمك من بعض تفاصيله حتى تراهم ينهضون من قبورهم ويقارعونك وينفضون عن أكفانهم غبار المقابر ليقفون لك بالمرصاد، وعلى الأغلب فإنهم مازالوا يمتلكون القدرة على تجييش الأحياء منهم لمقارعتك، وربما رجمك واعتقلك، والدعوة إلى إقامة الحد عليك!

«معظم شعوب العالم استطاعت أن تقزّم تاريخها لتضعه في مكانه اللائق باستثناء شعوب المنطقة العربية، الذين ظلوا (يصنّمون) الماضوية، ويتعاملون معها بإجلال بغض النظر عن قيمتها!».


«الفكر العربي، وبعد كل هذه الاستطالة التاريخية، بات بحاجة بالفعل إلى الانقضاض على تاريخه، ومقارعته بالأسئلة العميقة التي ظلت معلقة في عنق التاريخ دون أجوبة».

والغريب في هذا النهج أنه كلما تقادم التاريخ على الحادثة العربية واقتربت من الوأد التاريخي دبت في عروقها الحياة، وامتلكت القدرة على النفير واستدعاء الحراس وتجييشهم ضدك، وذلك لا غرابة في أن نجد أن التاريخ ضمن هذه الخاصية أخذ يمتلك عربياً قوة رادعة غير مرئية لكنها موجودة في حالة التماس مع هذا التاريخ ومشاغبته بالأسئلة والملاحظات.

من جانب آخر، فإننا نلحظ أن التاريخ العربي استطاع أن يدخل البدهيات التي لا يجوز الاقتراب منها، ويمكن أن نلاحظ أن التاريخ العربي استطاع أن يدخل في المنهاج المدرسي والجامعي، وأن يتسرّب إلى وجداننا وثرثراتنا، وإلى كل أشكال القيم المحكية التي نتعامل بها، وربما هذا ما جعل تاريخنا يمتلك كل تلك السماكات الإضافية على جلده! بحيث استطاع أن يتحول بالتقادم إلى مرجعية مقدسة يصعب الاقتراب منها، ولعل الاتهامات المتلاحقة بالزندقة والخروج عن الملّة تعود الى حالة الارتطام الأول مع السائد الماضوي أو التاريخي.

من جانب آخر، فإن هذا التخرص من الخوض التاريخي قد منح الباحث العربي قيلولة فكرية تقوم في أساسها على التقاعس والتثاؤب الفكري، التي تمنعه من مقارعة الماضي وتفجير استبطاناته، لا بل ذهب الباحث العربي في العديد من تجلياته الفكرية إلى توطيد هذا النهج وتثبيت أركانه، بما يتواءم مع السائد السلطوي العربي ربما لمصالح ليست مطلوبة منه أصلاً!

إن الفكر العربي، وبعد كل هذه الاستطالة التاريخية بات بحاجة بالفعل إلى الانقضاض على تاريخه، ومقارعته بالأسئلة العميقة التي ظلت معلقة في عنق التاريخ دون أجوبة، ولقد بات على المواطن العربي أن يسأل نفسه عن سرّ هذا التراجع في خطواته التاريخية، وأن يسأل على سبيل المثال لا الحصر عن سر هذه المجموعات المتطرفة التي عادت إلى مسلكيات المعارك التي تحمل شكل الفتوحات، وعن هذه الهمة في قطع الرؤوس، وعن كل هذه الرايات السوداء التي صارت ترفرف فوق رؤوسنا على اعتبار أننا مازلنا نقيم بين الكثبان الرملية والأطلال!

على العربي أن يسأل عن كل هذه الشهادات الجامعية والإقامة في حرم الجامعة لما يزيد على أربع سنوات، وعن الألقاب وفائض «الدكترة»، وعن كل هذه التخصصات الوعرة التي يدرسها الطالب العربي في الجامعات، وعن الفرق بين التلقين والحفظ الدراسي.

إننا نعيش نقلات تفكيرية مهمة في تاريخنا الآني، ولا نرى من الطليعة العلمية العربية من يعلق الجرس قبل وقوع الكارثة.

فهل من مجيب؟!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر