أبواب

ورقة خضراء لأبناء نوح

يوسف ضمرة

ماذا تكتب وأنت ترى رجلاً يقود كوكبة من النساء في السوق، لبيعهن سبايا وغنائم؟

ماذا تكتب وأنت ترى مئات الأطفال يصعدون إلى السماء على ذمة قذيفة؟

ماذا تكتب وأنت ترى وتعيش وتدرك أن هنالك من يمنع عن الناس الماء والهواء؟

يبدو الأمر سوريالياً تماماً، لكنه في النهاية واقع وحقيقي، وعلى الأدب أن يكون جريئاً ليمتلك المقدرة على اقتحام هذا الجنون البشري، والخوض فيه حتى النواصي.

انتهت الحرب الثانية قبل نحو 70 سنة، خرجت أجيال جديدة مذهولة مما حدث، كتبت وغنت ورسمت بشكل مغاير ومختلف، احتجاجاً على الجرائم والحماقات البشرية.


الأدب وحده قادر على رؤية وجهَي القاتل والضحية، ووحده قادر على رؤية انعكاسات هذه الوجوه على النفس البشرية.

لقد فقدت أوروبا في الحربين الكونيتين في القرن الفائت ملايين البشر، وتمكن الأدب من التجوال في حرائق الحربين، والعوم في دمائهما، لكي يتمكن الناس من صنع مستقبل أجمل أو أقل قبحاً على الأقل.

العالم في هذه السنة يحيي الذكرى المئوية الأولى على انطلاق الحرب العالمية الأولى، كُتبت العديد من المؤلفات، الأدبية والتاريخية والعلمية، لكنها لم تكن كافية تماماً لتجنيب العالم انزلاقة ثانية بعد خمسة عشر عاماً من هذه الحرب.

انتهت الحرب الثانية قبل نحو 70 سنة، خرجت أجيال جديدة مذهولة مما حدث، كتبت وغنت ورسمت بشكل مغاير ومختلف، احتجاجاً على الجرائم والحماقات البشرية، لكن البشرية لم تتعلم ولم تتعظ. دخلت فرنسا ثم أميركا في حرب فيتنام، أضيفت ملايين جديدة إلى قائمة الهلاك، ما الذي يريده الإنسان؟ لا يكفي القول إن الموضوع متعلق بمصالح اقتصادية أو جيوسياسية لتبرير قتل الملايين، فهذه أغنية لم تعد تطرب أحداً. على الأدب وحده ــ كما يبدو ــ أن يكتشف الجانب المظلم أو الغامض والسري في الأمر، لكن، لماذا الأدب؟

لأن الأدب معني بتفكيك النص وإعادة تركيبه في صورة جديدة، بمعنى أن الأدب غير معني بالواقعة أو بالحقيقة مثلما حدثت ليعيد صياغتها كما هي، فما يميز الأدب هو قدرته على قراءة الفكرة القائمة وراء النص/ الحرب والقتل مثلاً، قدرته على الحفر في النفس البشرية لكشف ما خفي منها على الآخرين من جهة، وعلى ذاتها من جهة أخرى. فالنفس لا تدرك تماماً كل ما تقوم به، أو كل ما توحي به إلى صاحبها، لا تعرف الأسباب الحقيقية، وإن بدا لها أن بعض المبررات كافياً أو يشكل سبباً للقتل والتنكيل والتعذيب.

منذ نحو أربع سنوات ونحن في العالم العربي سادرون في غينا، ولم يتمكن الأدب حتى اللحظة من الخوض الحقيقي والمتمكن في هذه السردية، في محاولة لاكتشاف الجوانب السرية والغامضة، ذاك لأن كل ما كتب حتى الآن، يخضع لمواقف أيديولوجية وسياسية مسبقة، أي أنه يجري تطويع الكتابة، وليّ عنقها لكي تلبي احتياجات السياسة والأيديولوجيا، وكتابة كهذه ليست قادرة على التحليق بحرية، ولن تتمكن من الوصول إلى البرية لتحمل ورقة خضراء لأبناء نوح.

يحتاج الأدب إلى عفويته وحريته وبراريه الطازجة، ويحتاج إلى التحرر من قداسة الدم، فالأدب وحده قادر على رؤية وجهَي القاتل والضحية، ووحده قادر على رؤية انعكاسات هذه الوجوه على النفس البشرية، وهكذا يكون قادراً على بناء شخوصه ووقائعه من دون أن تطوعه الواقعة نفسها. والأدب الذي يخضع لسطوة الوقائع لن يكون قادراً على قراءة الهواجس الخفية والدوافع الغامضة للفعل، وهذا لا يعني أن يقوم الأدب بتزوير الوقائع، لأن ذلك ليس دوره أصلاً، ولا يستطيعه لو أراد.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر