أبواب

مهنة النسيان

علي العامري

يبدو لي أن النسيان أو الفقدان باب لمهن عدة، ومهما كنا حريصين على أشياء أساسية في حياتنا، إلا أن النسيان سرعان ما يفتك بهذا الحرص، ويصيبنا بفقد شيء مهم مثل مفتاح البيت مثلاً.

هذه الفكرة وردت في بالي عندما فقدت، فجأة، أحد مفاتيح البيت، إذ ذهبت إلى محل نسخ المفاتيح الذي يعمل فيه شاب فلبيني، طلبت منه أن ينسخ المفتاح الوحيد الذي لدي، ودار حديث بيننا أثناء عمله، قلت له إنني فقدت النسخة الثانية من المفتاح، لآتي إليك وتطبع لي نسختين، من باب الاحتياط، حتى لا أفاجأ مرة بالوقوف أمام باب البيت وأنا أبحث في جيوبي عن المفتاح.

ابتسم الشاب الفلبيني، وقال لي إن مهنتي تقوم على الفقدان، ولولاه لأغلقنا المحل، وبحثت عن مهنة ثانية.

«الإنسان منذ حياته في الكهف كان يشعر بالخطر، وكان يسعى لتفاديه، بطرقه الخاصة، فمرة يعبد ما يعجز عن معرفة ماهيته، وأخرى يكون واقعياً ويضع صخرة على باب كهفه لينام مطمئناً».


«لايزال للمفتاح التقليدي مكانة لدى كثيرين، وهي مكانة حنين أو مكانة رمزية أو مكانة الحلم، ولايزال الفلسطيني يواصل حمل المفتاح بشكله القديم، ولايزال يحلم بالعودة إلى وطنه».

ابتسمت، وأنا أقول له نعم، إن النسيان باب رزق لا يمكن غلقه، لأننا مصابون بفقدان متكرر في حياتنا، والنسيان قرين الإنسان. وتذكرت كم من المهن تحيا على النسيان أو الضياع أو الفقدان! وكم من الأشخاص الذين نسوا مفاتيح سياراتهم داخلها وهي في حالة تشغيل، ليتصلوا بـ«ساحر» المفاتيح، الذي سرعان ما يحل المشكلة ببطاقة صغيرة يمررها إلى قفل الباب، أو بطريقة أخرى!

في محل نسخ المفاتيح، كانت آلة صغيرة يعمل عليها الشاب، وتلك الآلة يبدو أن مخترعها كان يعرف جيداً أنه يستثمر الفقدان، وكان يعرف جيداً أن هذه المهنة لا تموت، إذ إن وجودها مرتبط بالفقدان الذي لا مناص منه.

وفي ذلك المحل الصغير، الذي يشبه متحفاً مصغراً للمفاتيح المعلقة على جدرانه، رأيت أشكالاً وأحجاماً مختلفة من المفاتيح.

ومنذ القدم كان الإنسان ينشد الأمان، ما قاده إلى ابتكار طرق لحماية نفسه وممتلكاته، وكان القفل كلمة السر، وعلى الرغم من أن مصادر تذكر أن الآشوريين هم أول من استخدم القفل والمفتاح، إلا أن مصادر أخرى تذكر الريادة في ذلك للمصريين القدامى، ولكن الإنسان منذ حياته في الكهف كان يشعر بالخطر، ويسعى لتفاديه بطرقه الخاصة، فمرة يعبد ما يعجز عن معرفة ماهيته، وأخرى يكون واقعياً ويضع صخرة على باب كهفه لينام مطمئناً، مثلما كان جنيناً في بطن أمه. ومنذ زمن الكهف حتى الآن، والإنسان يحاول أن «يحصن» نفسه وممتلكاته، فكانت الصخرة قفلاً مفتاحها غصن شجرة أو حجر مسنّن، ثم تطورت المفاتيح والأقفال، إلى أن صار المفتاح بطاقة ممغنطة أو بصمة إلكترونية أو رمزاً بالحروف والأرقام، مع وجود الأشكال القديمة للمفتاح التقليدي.

ومع التطور التقني، لم يتوقف الفقدان، ولم ينقرض النسيان، فواصلت مهنة ناسخ المفاتيح وجودها، مواكبة التقنيات الجديدة.

لكن لايزال للمفتاح التقليدي مكانة لدى كثيرين، وهي مكانة حنين أو مكانة رمزية أو مكانة الحلم، ولايزال الفلسطيني يواصل حمل المفتاح بشكله القديم، ولايزال يحلم بالعودة إلى وطنه. ولايزال المفتاح المعدني القديم رمزاً لحق العودة الذي لن يصيبه النسيان، لارتباطه بشعب لا يتوقف عن الحلم بالعودة إلى وطنه فلسطين.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر