أبواب

مهن لا تُنسى.. «الحكواتي»

خليل قنديل

بعض المهن وحينما تحاصر بمهن أخرى فإنها تضطر إلى الانسحاب التدريجي، وتظل تتبدد في الاختفاء حتى تغيب تماماً وتتلاشى لتصبح أثراً بعد عين، ويبدو أننا كلما استغرقنا في المشهد المستقبلي لهذه المهنة أو تلك؛ فإننا نستطيع أن نقبض على تلك اللحظة التي تم فيها التحرش ببعض المهن الراسخة في التاريخ العربي، حتى استطاعت حذفها تاريخياً من مجمل المهن العربية!

ونحن هنا نستطيع أن نستذكر شخصية الحكاء العربي الذي كان له المكان المميز والخاص في مساحة المقهى العربي، إذ كان ينتقي مكاناً بارزاً يجلس على منصته وبزي خاص كي يبدأ بانتقاء شخصية شعبية من الموروث غارقة في وجدان الفلكلور الشعبي، فيقوم هذا الحكاء باستنهاض هذه الشخصية، معتمداً على الصوت والحركة والجسد في بعض الأحيان، وهو يفعل هذا بطريقة مهيمنة قادرة على استلاب النظارة والمحيطين بشخصية الحكاء.

«التسلل التكنولوجي استطاع أن يُخرس موهبة الحكواتي، فقد نجح جهاز الراديو وبزحفه البطيء أن يتسلل إلى المقهى، ويحل في المكان ذاته الذي كان يجلس فيه الحكواتي».


«المقهى العربي كان هو المكان الوحيد الذي تتم في أروقته الاتفاقات السرية، وربما من داخله كانت تكتب الحروف الأولى في اتفاقات الحرب وربما الصلح أحياناً».

ومعظم هذه الشخصيات كانت تعتمد المد والإطالة بحيث تتحول إلى مسلسل ليلي يمكن له أن يغطي أيام شهر رمضان؛ فبعض الشخصيات كان يوقظ ملاحم شعبية، مثل شخصية عنترة بن شداد أو السيرة الهلالية، وتتبع تشردهم الأرضي، وكان على الحكواتي أو السارد لهؤلاء يمتلك القوة على الإثارة، وقدرة تحريك الشجن النائم عند الجمهور لمدة لا تقل عن شهر!

وهذه المهنة التي كانت تعتمد على شخصية واحدة هي شخصية الحكاء كانت تمتلك كنزها الخاص في التنوع والاختلاف، وهي تجوب الأرجاء للشخصية السيكولوجية في كل المناحي!

لكن التسلل التكنولوجي استطاع أن يخرس موهبة الحكواتي فقد نجح جهاز الراديو وبزحفه البطيء أن يتسلل إلى المقهى، ويحل في المكان ذاته الذي كان يجلس فيه الحكواتي، وصارت جلسة المقهى هي جلسة أُذنية تعتمد على الاستماع، وحين أطل جهاز التلفزيون استطاع أن يقضي على هذه المهنة تماماً، إذ تم عقد شراكة بين العين والأذن لمتابعة المشهد الداخلي للمقهى!

هذا الاحتلال الذي مر بزمن سريع نسبياً على تدمير قوة المقهى، استطاع ــ وبفضل تسارع شخصية الحكواتي وتنقله بين الاستماع والمشاهدة التلفزيونية ــ أن يلغي هذا الطقس الفني من ذاكرة المقهى العربي، وأن يجعل شخصيات كثيرة تحكّمت في المشهد الداخلي للمقهى العربي أن تختفي وبسرعة عجيبة، هذا على الرغم من المشاركة التأسيسية التي قام بها المقهى العربي في العمل على تأسيس بعض الفرق الفنية المسرحية الرائدة، وتقديم الأدوار الفنية والغنائية، وعلى الرغم من مرور بعض الرموز المؤسسة لفن المسرح العربي من هذا المدخل الوحيد!

نقول هذا ونحن نعي أن المقهى العربي كان هو المكان الوحيد الذي تتم في أروقته الاتفاقات السرية، وربما من داخله كانت تكتب الحروف الأولى في اتفاقات الحرب وربما الصلح أحياناً!

ونقول هذا أيضاً لأن العديد من الصروح الحضارية يمكن أن تجتث بسبب اختراع بسيط لا يتعدى حجم كف اليد في معظم الأحيان!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر