أبواب

قصة تلك «القصة»!

خليل قنديل

حدث هذا في مطلع سبعينات القرن المنصرم؛ إذ كنت أتابع بدهشة هذا السيل من الناس وهو ينقض على ذاك الرجل، وهم يوسعونه ضرباً وشتماً، بينما الرجل يتلقى الضربات والركلات بابتسامة واسعة وبملامح مُشجعة على مواصلة الضرب، وكان من الطبيعي أن يسوقني فضولي الإبداعي ــ كقاص مبتدئ أيامها ــ عن سر هذا الرجل.

وعلى الرغم من كل الردود المرتبكة على سؤالي كانت إجابة واحدة ظلت تتكرر من أن هذا الرجل هو «قتيل» البئر الذي ظل لسنوات يعيش فيها باحثاً عن القتيل الأساس الذي ولَد هذا الاعتقال الدهري له، وهو حينما يخرج من البئر يقوم بمسلكيات عجيبة، أهمها ممارسة كل الرغبات التي أدت إلى قتله. فهو إن رأى امرأة جميلة لا يتوانى عن عناقها، ولا ينفك عن العناق إلا حينما تنطفئ عنده الرغبة! وبالطبع فإن تكرار مثل هذه الحركات هي التي أدت إلى مقتله.

عرضت مشروع القصة على فنان تشكيلي علّه يرسمها ويريحني، لكنه صفعني بإجابته حينما قال لي: «ابحث عن مجنون يشاركك مثل هذا الجنون!».


«مرت الأيام والسنوات وظل لتلك القصة مكانها الخاص في الروح، وهي تنقسم في نصفها الأول إلى فيلم، وفي القسم الثاني إلى سرد مُحبر!».

أذكر أن الحادثة بعد ذلك ماتت كمشهد مرئي، لكنها كحالة لها علاقة بالإبداع والسرد القصصي ظلت تحاصرني، وهي تطالبني بأن أكتبها. وأعترف هنا بأنني ذقت الأمرّين وأنا أحاول تجسيدها سردياً، وقد أتعبني نصها كثيراً، ومع أنني، في النهاية، استطعت كتابته في قصة قصيرة اسمها «القتيل»، إلا أنني اعترف أن تلك القصة ظلت تعاني النقص الغامض!

وأذكر أني وحينما كنت أحاول صياغتها التقيت بفنان تشكيلي يحاول أن تكون موضوعاته معمقة، فما كان مني إلا أن عرضت مشروع القصة عليه علّه يرسمها ويريحني، لكنه صفعني بإجابته حينما قال لي: «ياصديقي ابحث عن مجنون يشاركك مثل هذا الجنون!».

ومع ذلك ظلت هذه القصة مصانة داخل مجموعة «وشم الحذاء الثقيل»، ولا يبدو عليها أنها مارست كل هذا التدمير على شخصيتي، لكن المسألة بالنسبة إلي كانت مختلفة مثل أي امرأة ولدت مخلوقاً ناقصاً. وأذكر أني، وبعد هذا بعام تقريباً، تلقيت دعوة من كلية الفنون في جامعة اليرموك الأردنية، لمشاهدة فيلم سينمائي يخبرونني فيه بأنه تمت معالجة قصة «القتيل» الخاصة بي سينمائياً.

الله وحده يعلم تلك القشعريرة البدنية التي أصابتني يومها، وأنا أرى رؤيتي لمثل هذه القصة تتحقق.

وفي يوم العرض تعرّفت إلى مخرج الفيلم الذي قال لي إن الفيلم هو مشروعه التخرجي، وأعترف أنني فرحت للاحتفاء بي داخل القاعة والاحتفاء ببطلي وهم يهمسون «هذا هو المؤلف».

لحظات وبدأ العرض، وحين رأيت «مسعود» بطل القصة «يتنطط» بقامته السميكة شعرت بدموعي وهي تنسكب مدرارة من عيني، وقد ازداد تأثري حين لاحظت الحالة الدرامية للفيلم وهي تتورم وتأخذ كل هذه الفنتازيا المؤثرة، خصوصاً في لحظة تفجير الجبل وتتدفق منه أنهر وينابيع الدم ومحاولة الاستفادة من وشم المرأة وتوظيفه.

مرت الأيام والسنوات وظل لتلك القصة مكانها الخاص في الروح، وهي تنقسم في نصفها الأول إلى فيلم وفي القسم الثاني إلى سرد مُحبر!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر