أبواب

بين حضارتين

خليل قنديل

يقف المثقف العربي تاريخياً بين حضارتين الأولى حضارته التي أشبعت من ملامسة ومجاورة الحضارات لها، والثانية هي الحضارة الغربية المثقلة هي الأخرى بنتاجات كامنة في حضارات أخرى!

أما الحضارة الغربية فترتكن في غذائها إلى إزاحة فعل الاستبصار الرومانسي، الذي عادة ما يستنزف القوى التأملية، كي يبذرها خارج النتاجات المادية الملموسة إلى ثقافة قابلة للتكون إلى درجة اللمس!!

وربما هذا ما جعل جويس بعد الانتهاء من روايته «عوليوس»، يقول عن عمله المشبع بالأدب الإجرائي: «الآن أتحدى الزلازل، وكل الكوارث الطبيعية التي إن مسحت معالم مدينته (دبلن)، فإن من يعد إلى هذه الرواية، فسيستطع هندستها من جديد».

الحضارة الغربية ترتكن في غذائها إلى إزاحة فعل الاستبصار الرومانسي، الذي عادة يستنزف القوى التأملية، كي يبذرها خارج النتاجات المادية الملموسة، إلى ثقافة قابلة للتكون إلى درجة اللمس.

 أن تجاور الحضارة الغربية، وتمشي على إيقاعها، فهذا يعني أنك موجود في عمق العصر.

لكن عربيا المسألة تختلف، وعلى هذا الأساس من يراقب تعامل المبدع العربي مع حادثة اغتصاب فلسطين في الرواية والشعر وحتى المسرح، فلابد أن يلاحظ وبعد 60 عاماً، أن الحماس الإبداعي تجاه فلسطين قد فقد جذوته تماما، وأصيب بالبرود، والسبب طبعاً أن البكاء والنحيب على فلسطين هما ذاتهما النحيب الأول، باستثناء أصوات شعرية كصوت الشاعر الراحل محمود درويش، كونها تعاملت مع القضية بإيقاعها الإنساني المدوّي.

وإذا عبرنا بوابة مناهجنا الأدبية السائدة في الوطن العربي، وأمسكنا بالمناهج فإننا فسوف نلقي القبض على أعمال من أدبنا المعاصر، انسحبت تماماً من تاريخنا العربي المعاصر، لكنها مع ذلك ظلت تتحكم فيه، فقصيدة مثل «فتح عمورية»، التي ستجدها تزين بعض مناهجنا الدراسية، تجعلك تسأل عن ضرورة مثل هذا الشعر في مناهجنا.

أن تجاور الحضارة الغربية، وتمشي على إيقاعها فهذا يعني أنك موجود في عمق العصر هذا، ويمكن المجازفة بالقول إن بعض الأعمال الإبداعية العربية، التي ظلت تحافظ على رشاقتها الإبداعية ظلت مخلصة للنهج الغربي في الاستبصار الإبداعي والكتابي. والأهم من ذلك أن معظم الأعمال الإبداعية المستترة بالنهج الغربي ظلت تحافظ على مكانتها الإبداعية بسبب هذا الاستتار.

إن المعايير النقدية في الشعر على الاقل، التي ظلت تتمترس خلف مصطلحات نقدية، دفاعاً عن شعر انتهت صلاحيته الإبداعية، بدأت تعترف بنوع من الخجل غير المعلن، أن باطنية الشعر الغربي الخلاقة هي التي كسبت في رهانها التاريخي. وأنا هنا أتحدث عن قصائد غربية، كان لها دورها الانقلابي في الشعر العالمي، وذلك كالشعر الذي كتبه ت.إس. إليوت في الأرض الخراب.

إن ارتهاننا للفلسفة الغربية، وما طرحته هذه الفلسفة من استقراءات باطنية عميقة في المجالات التنظيرية كافة، يُحتم علينا أن نرفع قبعتنا احتراما لهذه التجليات التنظيرية.

والأمر يُحتم علينا أن نرفع القبعة ذاتها، احتراماً للمسرح الذي جاور أرواحنا، حينما كانت نيئة، وقام باقتيادها بعيداً عن مسرح الحكواتي، القائم على «الخراريف»، وجعلها تقطن على الخشبة المسرحية المثقفة.

وبالطبع لا يمكن لنا تجاوز عدم تثمين النقلة الروائية، التي أحدثتها الرواية الغربية في عوالمنا الإبداعية، وكيف استطاعت في زمن قصير أن تحقق كل هذا الحضور، وأن تنافس أعمالاً روائية غربية.

إن العلاقة المتواترة بين حضارتي الشرق والغرب قد أكسبت الحضارة العربية مهارات كتابية، كانت غائبة عنّا، وجعلت عودها الكتابي يتصلّب، ويتجذر أكثر من ذلك في الأرض.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر