أبواب

التقاعد الإبداعي المُبكر

خليل قنديل

بعض المبدعين أخذوا مساحتهم في المسار الكتابي العالمي بعمل واحد، استطاع أن يمثل الزخم الذي يستحق مكانته اللائقة في تاريخ الكتابة، وبدا صاحبها ومولدها الأساس وكأنه قد فرّغ ما في جعبته الإبداعية مرة واحدة، فضلاً عن كونه استطاع أن يختصر حياة إبداعية كاملة بكتاب واحد وبعمل إبداعي واحد تقريباً، هكذا من دون ضجة، وبرفعة لا يدركها إلا أصحاب العلامات النادرة في التاريخ.

وإذا قاربنا هذا الانسحاب المبكر لبعض مبدعي العالم مع الطبيعة المهنية أو الوظيفة فكأنما المبدع يتوازى مع أي موظف استطاع أن يحصل على «التقاعد المُبكر» وأخذ هذا اللقب بجدارة.

وهكذا ونحن نطل على تجربة الكاتب الإسباني «سيرفانتيس» في تجربته الروائية «دون كيخوته» سنكتشف أن مثل هذا العمل الانقلابي على مستوى الرواية العالمية والانتقال بها من السرد الحكائي الذي يعتمد تسلية القارئ إلى السرد الحافر والعميق في الذات البشرية، والقدرة على طرح الاسئلة العميقة من خلال هذا النص الروائي، بحيث اعتبرت رائعته «دون كيخوته»، سيعد لاحقاً الخطوة الحقيقية الاولى التي استطاعت التأسيس للفن الروائي بشكل عام!

وفي التاريخ الكتابي العالمي قامات إبداعية مثل الشاعر الفرنسي «آرثر رامبو» الذي أقدم على كتابة الشعر، فأحدث انقلاباً في الكتابة الشعرية عالمياً في مدة عمرية لم تتجاوز 12 عاماً من سنوات شبابه المبكر، خصوصاً في ديوانه الشعري «المركب النشوان»، وقد توقف بعد ذلك عن كتابة الشعر، وحصل هو الآخر على تقاعده المبكر حين اختط طريق البحث عن الثراء بالعمل في إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي عموماً، وقد فعل هذا وهو يحمل قطعه الذهبية الثقيلة مسافات طويلة، جعلته في النهاية ربما بسبب حمولته الثقيلة والمشي مسافات طويلة ووعرة يصاب بمرض السرطان، وعليه فإن رامبو استطاع في فترة وجيزة أن يُحدث انقلابه الخاص في مسار القصيدة العالمية عموماً.

ونستحضر في هذا المقام الشاعر الفرنسي «بودلير» الذي استطاع عبر ديوانه الشعري «أزهار الشر» أن يكسر التابو الكتابي الذي كان يحاصر الشعر بممنوعاته المقيتة، وأن يعتق الشعر من حصار الأبواب الحديدية السميكة، وأن يذهب به نحو الحرية في النطق والبوح وانعتاق الجملة الشاعرية من كل الاغلال والقيود، وأن يحصل في النهاية على تقاعده المبكر وهو يتابع اثر ديوانه في محاكم المنع والتكميم.

لكن عربياً تبدو مسألة التقاعد المبكر مستحيلة، إذ إن من الصعب أن نجد كاتباً عربياً كان قد أقدم على كتابة الشعر أو القصة أو الرواية واكتفى بعمل واحد، هذا عدا عن أننا ونحن نتصفح تاريخنا الأدبي لا نجد ذاك الكاتب الذي استطاع بديوان شعري أو بمجموعة قصصية أو برواية أن ينجز مشروعه الكتابي وينسحب، لا بل فإن الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك ونحن نرى الكاتب العربي تحول إلى حمولة زائدة وثقيلة ولزجة على الأدب ذاته.

والبعض من هؤلاء الكتاب استطاعوا أن يأخذو مكانة تراتبية ونقابية في التجمعات الأدبية بناء على مهارات اجتماعية، بعيدة كل البعد عن الكتابة وواقعها. والبعض الآخر منهم حصل على عضويته المميزة في اتحادات الكتاب والروابط الأدبية بناء على عمل واحد، لا يقدم ولا يؤخر في مستوى الإبداع العربي. ولا نبالغ إن قلنا إن بعض هذه الرموز قد خلفت أمراضها الاجتماعية العجيبة في الجسد الكتابي العربي.

 

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر