أبواب

جيل السينما

خليل قنديل

أنا من جيل السينما بامتياز، إذ شكلت السينما في بواكير العمر، عمر جيلي بأكمله، الكوة الوحيدة التي تسرب أشعة التحضر والاختلاف الى الروح، وهي الوحيدة التي كانت تؤسس لمخيال شبابي جامح من حيث قدرتها على تثوير هذا المخيال، في زمن كان فيه الكتاب المطبوع والمذياع وشح الدراما التلفزيونية الصارمة، لذلك كانت هي الكوّة الوحيدة التي من الممكن أن نخرج منها الى اتساع العالم الجميل!

نعم كانت السينما بالأفيشات التي توزع في شوارع وميادين وساحات مدن مسقط الرأس تبدو كحادثة مباغتة وجميلة لصباحاتنا الصارمة، وكان كل فيلم بالأفيش الخاص به علامة ستنحفر في الوجدان والذاكرة لاحقاً، وهي التي سترسم لنا خطة تجميع النقود الكافية لاقتطاع تذكرة دخول بلون أخضر أقرب الى «الخاكي»، وعندها ستبدأ خطة الاحتيال على العائلة من أجل توفير ثمن هذه التذكرة.

وقد كانت السينما تشكل عند الآباء والأمهات حالة من رجس الشيطان والغواية والتبذير الكافر للنقود، وقد كنّا نتجنب الاعتراف بخطة الذهاب الى السينما، ونبتكر الأكاذيب الخلاقة لنبعد الشك عن مشوارنا السينمائي هذا!

وما زلت أذكر في الصفوف الابتدائية كيف دخل علينا مدير المدرسة طالباً من كل واحد منّا إحضار مبلغ ‬10 قروش من أجل حضور فيلم «واسلاماه»، وقد شكل هذا الطلب وضعية شرعية لدخول السينما هذه المرة بناء على أوامر مدرسية، وقد حدث الأمر ذاته مع فيلم «جميلة الجزائرية»، إذ بدا الأب مندهشاً من هذا «التهميل» الذي تمارسه المدارس المحترمة على الطلاب! لكنه كان في النهاية يقبل ذلك على مضض.

سينما الستينات والسبعينات كانت تقودنا الى ذاك التزاحم الشبابي الجميل أمام الطاقة الصغيرة التي يطل منها قاطع التذاكر برأسه الحرذوني، وبنظراته المرعبة وصوته الهامس، ومن ثم، وحينما تصبح التذكرة في اليد تبدأ بوابة السينما بالانفراج لندخل في تلك الاضاءة الناعسة وتفقد المقعد الخشبي المناسب، ثم تلمس تلك الرطوبة النائمة في خشب المقاعد، والاستماع لأغاني عبدالحليم حافظ، قبل أن يبدأ العرض، وما إن تطفأ الأنوار ويبدأ العرض السينمائي حتى نرى أنفسنا وقد اقتلعنا فيزيائياً من مقاعدنا وذهبنا في حلم المشاهدة حد الاندغام الكامل.

هذه الإجازة المؤقتة من واقعنا الحياتي كانت تجعلنا نحلق مع فاتن حمامة وشكري سرحان ونادية لطفي وشادية وفريد شوقي وعبدالحليم حافظ وحسين رياض، كانت رومانسية الافلام بالاسود والأبيض تقتلع الألوان من عيوننا لتغرقنا في ذاك الحزن الجميل، وكانت وقفة نادية لطفي أمام عبدالحليم في فيلم «الخطايا»، وهي ترتدي تلك البلوزة البيضاء تاركة شعرها المربوط على هيئة ذيل فرس، بينما عيناها تجوسان المشهد وغناء العندليب لها بشهوانية مكبوتة تجعلنا حينما نخرج من السينما ونعود الى جميلة الحي نمارس عليها عملية الاحلال كي تصبح مشابهة لنادية لطفي!

نعم أنا من جيل السينما، وقد تأكدت من ذلك حينما مررت عابراً بمسقط الرأس، حيث لاحظت جرحي الروحي كيف نزف وأنا أراقب الجرافات وهي تقتلع البناء الاسمنتي لتلك السينما!

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر