أبواب

الحكمة الناقصة

قيس الزبيدي

يُقيم ونستون تشرشل كتاب لورنس «أعمدة الحكمة السبعة» بأنه المختصر التام لما يمكن أن يعنيه العرب للعالم، وتكتب مجلة للعلوم السياسية أنه ذو أهمية كبرى عن العالم العربي الذي قد يؤدي غليانه إلى رد انعكاسات عميقة على كل ما سيأتي به عالم ما بعد الحرب.

ليس العرب، حسب لورنس، سوى شعب الانفعالات والثورات والإلهامات والوحي وعنصر العبقريات الفردية، وأكبر صناعاتهم صنع المعتقدات. اثنان من أديانهم الثلاثة استطاعا أن ينطلقا إلى ما وراء الحدود: المسيحية بسطت سلطانها على قارتي أوروبا وأميركا، والإسلام انتشر في القسم الأكبر من قارتي آسيا وإفريقيا. وقدمت حضارتهم العربية للإنسانية خدمات جليلة، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في دياجير الظلام والقرون الوسطى. لكن ما أن طغى الأتراك واستأثروا بما كان للعرب من حَوْل وطَوْل حتى انقلب حسن طالعهم إلى سوء. وكان الرضوخ للنير التركي، بالنسبة لهم، أشبه ما يكون بموت بطيء، إضافة إلى أن الأتراك عودوهم على تقديم مصالح الطائفة على مصالح الوطن. ومع أنهم فقدوا في ظل الأتراك معناهم الجغرافي، سياسياً وتاريخياً، لكنهم تمسكوا بلغتهم وجعلوا منها تجسيداً لكل ما يقدسون، فباتت بمنزلة وطنهم المفقود.

من الوهلة الأولى نلاحظ عند العرب صفاء غريباً وصلابة فريدة في المعتقد، وهم يرون العالم في ألوانه الأصلية، بل في لونيه الرئيسين الأبيض والأسود، ويحتقر فكرهم الجازم الشك، ولا يقبل مطلقاً التردد «الذي تسلحنا به نحن الأوروبيين لمواجهة ما وراء الطبيعة» كما يقول لورنس، فهم يعرفون بكل بساطة ما هو حق وما هو باطل، ما هو إيمان وما هو إلحاد. ومع ذلك «لم ألمس بين العرب سوى اثر ضئيل للتعصب الديني»، والشريف حسين نفسه رفض مراراً وتكراراً أنْ يضفي على ثورته رداءً دينياً، لذلك كان جوهر ثورته قومياً، وكانت العشائر بدورها تعرف أن الأتراك مسلمون، إلا أنهم تحالفوا مع المسيحيين وثاروا عليهم.

كان البريطانيون يعلمون أن العرب إذا ما ركبوا متن عقيدة وأسلموا زمام أمرهم إلى «نبي» مدجج بالسلاح، فإن في استطاعة الأيدي الماهرة أن تصل بهم ليس إلى دمشق فحسب بل إلى القسطنطينية أيضاً. لكن جل ما كانوا يسعون إليه هو حكومة مستقلة تدافع عن حقوقهم وقوميتهم ليعيشوا في سلام. بينما كان «حكامهم» يقترفون الكثير من الأخطاء بسبب انصياعهم لنصائح أوروبيين، وستكشف معاهدة «سايكس بيكو» السرية، المُعَدّة مُسبقاً، كيف أنهم خدعوا أثناء ما كانوا يحاربون العدو ببسالة، وكانوا أكثر شجاعة وبساطةً وحبوراً من سائر البشر.

يعترف لورنس: من ناحيتي كنت قد أمضيت سنة ونصف السنة في الحركة العربية وأنا اقطع على متن الجمل أكثر من 1500 كلم شهرياً، عدا السفر بالطائرات أو السفن أو السيارات المصفحة، وكل هذا لم يكن ليعني شيئاً لي بالقياس إلى الخداع المرهق الذي اضطررت إلى أن أُحمل نفسي وزرَه.

تحقق أخيراً للعرب قيام حكومة وطنية في دمشق، عاصمتهم التاريخية، لكن بدأت، حينئذ، ثورة ستنام خلاياها لعقود طويلة عندما حاول عبدالقادر الجزائري أن ينبه إلى أن الرجال الذين استلموا الحكم لم يكونوا سوى صنائع بريطانية، ودعا إلى القضاء على حكمهم وهو في مهده خدمةً للدين وللخلافة.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر