أبواب

أفكار اليوم والليلة

محمد المرزوقي

في عام 1977 وضع عالم البيولوجيا الجزيئية، ريتشارد دوكينز، نظرية مثيرة لتفسير انتشار الأفكار في المجتمعات، سماها نظرية «الميمات». بحسب النظرية فإن الأفكار مجرد كائنات أنانية تكابد من أجل إنتاج أكبر عدد ممكن من النسخ المطابقة لها ونشرها، وتتعامل الأفكار ـ تبعا لذلك ـ مع عقل/جسم الإنسان باعتباره مجرد وسيلة لإنتاج المزيد منها!

وتمامًا كما تتصارع الكائنات الحية مع بعضها بعضاً من أجل البقاء، تتصارع الأفكار هي الأخرى وتتنافس في ما بينها وفقًا للقانون البيولوجي «البقاء للأفضل»، والفكرة الأفضل ليست بالضرورة تلك التي تفرض نفسها بالقوة والعنف!

فالحضارة الغربية مثلاً سنت فكرة «الإكراه في الإيمان»، واتخذت البطش والقوة في أبشع صورهما سبيلاً لفرض المسيحيّة على الشعوب، وكانت هذه الفكرة سبباً أساسياً في ثورة شعوب أوروبا على الكنيسة وانعتاقها نهائياً من شرنقة المسيحية. وقد فطن الإسلام منذ ظهوره لهشاشة هذه الفكرة، فلا يمكن لإيمانٍ أن ينتشر بسيف السّلطان، لأنه عندئذ لا يكون إيماناً بل إذعاناً. فكانت دعوته القائمة على فكرة حرية المعتقد عملاً بقول القرآن {لا إكراه في الدين} سببًا في انتشاره.

وللأسف الشديد، ظهرت أفكار مناهضة لهذه الحرية الفكرية التي تميز بها، كفكرة «حدّ الردة» التي روج لها فقهاء حاولوا إلصاقها عنوةً بالإسلام

كان أول ظهور لمصطلح الردة في الحروب التي خاضها أبوبكر الصديق ضد القبائل التي تمردت عليه بعد وفاة الرسول، فهو لم يبدأ هذه الحروب وإنما بدأها هؤلاء المتمردون الذين استغلوا إرسال أبي بكر جيش أسامة إلى الشام للتكالب على المدينة المنورة ظناً منهم أنه لا يوجد فيها من يحميها. فكوّن أبوبكر مجموعات من كبار الصحابة تمكنوا من رد هجمات المتمردين. ثم أرسل السرايا لملاحقة وقتال هذه القبائل التي حاولت زعزعة مركزية الدولة الإسلامية. وقد شاع إطلاق كلمة المرتدين على هذه الحرب مع أن الخارجين لم يكونوا «اصطلاحاً» مرتدين، بل فيهم من امتنع عن طاعة ولي الأمر، وفيهم من امتنع عن أداء الزكاة لأنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة، وفيهم «التارك لدينه المفارق للجماعة» أي الخارج على الجماعة بالسلاح. فكانت حرب أبي بكر حرباً شاملة على جميع هؤلاء لكي يُخضع الناس في جزيرة العرب لسلطان القانون والدولة في مقابل الرجعية والفوضى، وعلى الرغم من اعتراض عمر بن الخطاب وصحابة آخرين على قتال أبي بكر هؤلاء المتمردين كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، إلا أن حنكة أبي بكر السياسية كانت سببًا في حماية الدولة الإسلامية.

فالإسلام يفرض مقابلة الخلاف في الرأي أو الدين ـ ما لم يصاحبه حملٌ للسلاح ـ بالحجة لا بالسيف، والقرآن مملوء بالنصوص الحوارية لجميع الفرق والمذاهب من ملحدين ودهريين ويهود ونصارى ومجوس، ولذلك فإن علياً لم يكفّر الخوارج ويحكم عليهم بالردة بل حاورهم، ثم أعلن أن لهم عنده ألا يمنعهم مساجد الله وألا يقاتلهم حتى يقاتلوه، ولما انتهكوا أعراض ودماء المسلمين قاتلهم. بل حتى الرسول لم يثبت أبداً أنه قتل مرتداً أو منافقاً لأن الخلاف مع هؤلاء كان فكرياً بحتاً لم تُرَق فيه قطرة دم واحدة، وجميع غزواته كانت إما ردات فعل أو دفاعاً عن مبادئ الحرية والعدالة التي نادى بها الإسلام.

al-marzooqi@hotmail.com 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر