كل جمعة
المرزوقي.. الذي يبكي
يروق للزعماء الذين ينتابهم إحساس أسطوري بالألوهية والخلود أن يُسمّوا البلاد بأسمائهم، فكأنما هي مقاطعات، أو مزارع، وكل منْ يعيش فيها مُلك للقائد الفذّ، والضرورة، والملهم.. وما إلى ذلك من أوصاف عصف بها الربيع العربي، حتى رأينا دكتاتوراً مثل زين العابدين بن علي يتسوّل مهبطاً لطائرته، قبل أن نسجل سقوط «ملك ملوك إفريقيا» بكامل فولكلوره الشعبي، وهو يستجدي ضحاياه الرأفة من مجرى إسمنتني للصرف الصحي.
لكنّ الربيع العربي، وفي أكثر صوره خضرةً وجمالاً، شاء لنا أن نرى زعيماً مجرداً من كل ألوهة حجرية، زعيماً قادماً من كلية الطب، ومن حزب سياسي، ومن زنزانة انفرادية في سجن طاغية، زعيماً من الناس، درَسَ في المدارس الحكومية، وأصبح أستاذاً في جامعة باريس، ثمّ وقف قبل أيام أمام التوانسة، مزهواً بوسام رفيع على صدره، ليس سوى شارة، تحمل صورة شهيد ثورة الياسمين أحمد الورغي.
في يومه الأول، زار المرزوقي عائلة الورغي في منزلها، عانق أفرادها، وهطلت دموعه، قالت الأم اليوم أستطيع أن أقول إن دم ولدي لم يذهب هدراً. الصورة بالصورة تّذكر، فقد أجبر الأمن الخاص بزين العابدين بن علي والدة ملهم الثورة محمد البوعزيزي على الحضور إلى قصره، حيث استقبلها الطاغية من أجل التضامن المدروس أمام الكاميرات، ومن أجل ألا يمرّ ذلك اليوم من دون أن يجد إعلامه الرسمي خبراً، يكرره في كل نشرة.
المنصف المرزوقي، لا يتقمص روح جلجامش، ولا يحلم بالخلود، ولن يسمح بأن يُقال «تونس المرزوقي»، فهذه بلاد غادرت مرحلة طاغية إلى دولة مدنية، يقودها بروفيسور في الطب، وغادرت حكم عائلة فاسدة، إلى حكم دستور وقانون وبرلمان، وافتتحت الربيع العربي في مثل هذه الأيام من العام الماضي، بجسد محمد البوعزيزي الذي اشتعل، احتجاجاً على الظلم والجوع وامتهان الكرامة.
هكذا، قبل أن تحلّ الذكرى الأولى لحريق البوعزيزي في 17 ديسمبر، الذي يمرّ غداً، كان لتونس ما أرادت، وها هي تخطو نحو التعددية والديمقراطية، والألوان المتعددة، وليس ثمة ما يُعكّر الصفو التونسي، فالأحزاب الثلاثة التي فازت في الانتخابات الأخيرة، وفي مقدمها حزب النهضة، متفقة على أن تصنع نموذجاً لدولة حديثة، مثلما صنع شعبهم النموذج العربي الأول للثورة السلمية. وهكذا، حين يقف تونسيّ، مثل المنصف المرزوقي أمام شعبه، بعباءة ترمز إلى تقاليدهم وتراثهم، يكون لتونس ما أرادت، وهي تستمع إلى قوله إن «أكثر ما نحتاجه، ونحن على باب مرحلة من أثرى مراحل تاريخنا، أن ندخلها بروح معنوية عالية، نستمدها من نجاحنا كأول ثورة عربية سلمية ديمقراطية، بلا صنم، أو أيديولوجيا».
وهكذا أيضاً، يستمع زعيم عربي آخر من طراز «التاريخي، والملهم، والضرورة»، إلى خطاب المرزوقي، ويشاهد انهمار دموعه على شهداء تونس، فلا يستفزه شيء، وإنما يتذكّر أنه لم يقم بواجباته اليومية كما ينبغي، فالقتلى أقلّ من المتوقع، والإعلام الرسمي لم يتحدث اليوم عن المقاومة والتصدي كما ينبغي، لابدّ أن ثمة خطأ ما، يحتاج الى حركة تصحيحية، أو خطاب ضاحك عن تراجع منسوب الدم في الشوارع، بسبب مؤامرة إمبريالية.. غاشمة جداً.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .