يا جماعة الخير

نفسك التي بين جنبيك!

مصطفى عبدالعال

روى مالك في الموطأ أَن رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرجْلِ (مقطوعهما) قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصديقِ فَشَكَا إِلَيْهِ أَن عَامِلَ الْيَمَنِ (الوالي) قَدْ ظَلَمَهُ-فاستضافه أبو بكر ببيته - فَكَانَ يُصَلي مِنَ الليْلِ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: «وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ». ثُم إِنهُمْ فَقَدُوا عِقْدًا لأِسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصديقِ فَجَعَلَ الرجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ: «اللهُم عَلَيْكَ بِمَنْ بَيتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصالِح (رتب لهم ضراً). فَوَجَدُوا الْحُلِي عِنْدَ صَائِغٍ ثم تبين أن الذي باعها له هو ذلك الرجل الأقطع! فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصديقُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «وَاللهِ لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَد عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِه».

هذا في عصر أبي بكر الصديق، أي في العامين التاليين لعصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلُ قطع الوالي يده ورجله، أي نفذ فيه حد الحرابة، وما كان الوالي لينفذه إلا بعد ثبوت جريمة إفسادٍ في الأرض، وهذا حكم الله {إِنمَا جَزَاء الذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتلُواْ أَوْ يُصَلبُواْ أَوْ تُقَطعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم منْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} (المائدة: 33). وهذه آية الحرابة التي نزلت في جماعة قدموا المدينة وهم مرضى فوجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج عند الإبل في المرعَى خارج المدينة ليشربوا من أبوالها وألبانها، فلما فعلوا شفاهم الله وقويت صحتهم فإذا بهم يقتلون الراعي ويستاقون الإبل، فنزلت الآية فيهم فأمر النبي بالقبض عليهم ونفذ فيهم حكم الله، ولنتأمل رحمة الله بعباده حين لا ينظر إلى مُرَوعِي الناس بعين الرحمة فيقول: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله». بالتعدي على أمن خلقه وأموالهم وأعراضهم «ويسعون في الأرض فسادا»، بقطع الطرق والسلب والنهب «أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف»، أي أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى «أو يُنفوا من الأرض»، الإبعاد والسجن، وقد رتبها الفقهاء: فالقتل لمن قَتل فقط، والصلب لمن قَتل وأخذ المال، والقطع لمن أخذ المال ولم يقتل، والنفي لمن أخاف فقط، على تفصيل في كتب الفقه.

فهل يستوقفنا هذا الأقطع وعدم اعتباره بقطع يده ورجله في حد الله، ثم الكذب على خليفة رسول الله، ثم عدم تقديره لضيافة الخليفة له ببيته، ثم انتهاكه حرمة بيت الخليفة، ثم الأدهى والأمر دعاؤه على من سرق العقد والتظاهر بالبحث معهم عنه؟ وهو لا شك عايش حكم الحرابة خبراً وتطبيقاً، ومع ذلكلا حياة لمن تنادي! إنها النفس البشرية بأطوارها وأسرارها وأغوارها، وإنها بيننا جميعاً تعيش بدرجات متفاوته، كأنه انفصام بين الصورة في العلن وصورة أخرى تماماً بعيداً عن العلن، وبين أقوال نتشدق بها وأفعال لا تطابق بل لا تقارب تلك الأقوال، وصدق الشاعر

ومهما تكن عند امرئ من خَليقةِ وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ

نعم إن الله حليم ستار، لكنه يعلم السر وأخفى، ويمهل ولا يهمل، وهو أيضاً المنتقم الجبار.

المستشار التربوي لبرنامج «وطني»

mustafa@watani.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر