5 دقائق

فقه التدمير!

ميره القاسم

هناك من يتلمّس منابع الجمال وموارده.. لكن في المقابل هنالك من يلهث وبوعي وراء التنقيب عن منابع القبح والبشاعة، وقد يبذل الغالي والثمين في طريق تلمسه ذاك.

لا أسرف هنا في المبالغة، فكل المخترعات الحديثة من تكنولوجيا متقدمة وتوجهاتها تؤدي إلى ما ذهبت إليه، ويحضرني هنا مصطلح طالما كان يلح على فكري، ألا وهو «فقه التدمير»، وهو فقه قائم على تبرير مختلف صنوف القبح والبشاعة التي ترتكبها شريحة كبيرة من مستخدمي التكنولوجيا حول العالم، مع العلم أن هذه التكنولوجيا خُلقت لتخدم البشرية لا لتدميرها، فقبل أقل من عقدين لم نكن نسمع عن جرائم «نتية» كالسرقات والسطو واستخدام الهواتف بشكل يؤذي بحياتنا.. إلى آخره، يكفي أن تولي وجهك شطر التكتلات والتجمعات التي قامت من أجل تحقيق ما سميته «فقه التدمير» الذي تسميه تلك الشريحة «حضارة» أو «مدنية حديثة» لكي نكون أكثر دقة في إطلاق المفاهيم والمسميات.. فلا شك أن هذه المدنية بكل ما تزخر به من مخترعات ومكتشفات أسهمت إسهاماً كبيراً في التخفيف من عناء الإنسان وجهده باختزالها للزمن من جهة وإسهام ذلك الاختزال في مواصلة الإنسان لجهده النير من أجل مصلحة جنسه البشري.. على الرغم من كل ذلك يظل للوحة جانبها القاتم الذي لن تنيره وتضيئه مصابيح الدنيا، بل لا تزيده إلا كشفاً له وتعرية لجانبه الخفي، ألا وهو هذا اللهاث والسباق النموذجي والنوعي في تحويل هذه النعمة إلى طريق تدمير كل المنجزات البشرية الخيرة، هذا التسابق جعل الآلة الحديثة منصّبة حاكمةً بأمرها بيدها قضاء البشر وقدرهم، تهبهم الحياة متى شاءت وتنزعها منهم متى شاءت، ثمة شرك جديد يعد لأولئك الذين كانوا في يوم من الأيام بعيدين بشكل أو بآخر عن مراكز تلك الحضارة في شبه الجزيرة العربية، قبل أن تتغلغل في صلب مجتمعنا، غير أن المثير للاهتمام والتأمل أن يبلغ الإنسان ما بلغه من علم وتقدم وتطور على صعيد البنية الظاهرة، إلا أنه يظل في صورته الباطنة هو ذاته الرجل الأمي بكل غلظته وفظاظته قبل أن ينعم بنور الثقافة، فهو الآن يقطن في شقة بمبنى مكون من 60 طابقاً، يستقل سيارته الفاخرة الزاخرة بأحدث أنواع الأجهزة من «نافيجيتور» و«بلوتوث» و«دي في دي» وغير ذلك الكثير، يدين لإله صنعه قد يكون حاسوباً أو طائرة مقاتلة أو قنبلة فراغية أو انشطارية.. نيترونية.. الخ، عقلية الإبادة والسطو والاستئثار بالموارد والطاقة، ونسف القيم، بل وأد الأخلاق، أصبحت ماركة مسجلة للإنسان المتبجح بإنجازاته، من دون أن نعمم في هذا الصدد، غير أن ما نرمي الوصول إليه هو أنه بقدر ما أن يداً تمتد لتخترع مصعداً كهربائياً أو دواءً ناجحاً ثمة يد أخرى تمتد لتسقط ذلك المصعد وتسمم ذلك الدواء.

ألا يعد ذلك تهافتاً على منابع القبح والبشاعة ولهاثاً وراء تراكمها في كثير من صور الحياة ومشاهدها؟

 wahag2002@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر