أبواب

أزمة غير لازمة (2)

محمد المرزوقي

مشكلة الفكر أنّه لا ينقسم إلى « صحيح » و« خاطئ » فحسب. بل ينقسم أيضاً إلى فكر حيّ وفكر ميت. وهو انقسام مستتر، لا يستطيع أن يراه المرء بالعين المجردة، ولا حتى باستخدام « الدوربين »؛ لأنه لا يظهر على السطح، بل يكمن خلف السّلوك.

الفرق بين الفكر الحي والفكر الميّت كالفرق بين الدرهم الحقيقي والدرهم المزيّف. فالدّراهم المزيّفة تشبه الدّراهم الحقيقيّة ــ من الخارج ــ شبهاً تاماً، لكنّها لا تساويها في القيمة؛ لأنّ رصيدها لا قيمة له.. إلا في لعبة « المونوبولي »!

كذلك الفكر الميّت يشبه من الخارج الفكر الحي، لكنهما يختلفان كثيرًاً في طبيعة كل منهما. فكما أنّ الأوراق النقديّة لا تستمد قيمتها من ألوانها الخارجية أو شكلها المزخرف، بل من نوع رصيدها فقط. كذلك هو الفكر، يستمدّ حياته من مدى احترامه للعقل ومواكبته للزمن.

إحدى علامات الفكر الميت، أنه منقاد ــ  تاريخياً  ــ إلى الماضي، بكل موروثاته وتقاليده وأفكاره.. ورجاله. وكما قال ابن خلدون: « اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات ». يكفي ليدرك المرء مدى صحة عبارة ابن خلدون السابقة، أن يتابع ما يصطلح على تسميته ببرامج الفتوى على القنوات الفضائية ( العربية بطبيعة الحال ). فما إن يبدأ البرنامج، ويجلس المشاهدون واجمين في حضرة الشيخ المفتي، يخرج الاستوديو، بكاميراته، وديكوراته، وبكل تفاصيله من هذه الكرة الأرضية، ويغيب في عالم أسطوري لا يحكمه منطق، ولا يعترف بعقل. في أحد تلك البرامج، سأل المذيع ضيفه: كيف نأكل الإبل وهي مخلوقةٌ من الجن! سؤال مجنون، وفكرة غير طبيعية، لا يمكن تبريرها إلا بمنهج الأسطورة، وهو ما انتهجه الشيخ الفاضل في إجابته التي لم تقل جنوناً عن السؤال نفسه وتداولتها وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي لأسابيع عدة تحت عنوان« داعية يجيز أكل لحوم الجن »!

وليغلق الباب أمام أي فرصة لنقاش رأيه/فتواه، ختم الشيخ إجابته، وهو يتحدث بالنيابة عن أكثر من مليار مسلم، قائلاً « إننا نأخذ بما صح من المنقول لا بما تستحسنه العقول »!

المشكلة ليست في الفتوى نفسها بقدر ما هي في لجوء المرء إلى طلب فتوى دينية لأي تصرف أو سلوك، بدءاً من دخول دورة المياه وانتهاءً بالخروج منها مروراً بدورة المياه نفسها! وكأن الناس أصبحوا ــ على حين غرة ــ عمياناً، وبحاجة إلى من يقودهم دائماً. ومع أن تعاليم الإسلام قد جاءت قبل 15 قرناً وأصبحت مفهومة/ معروفة للقاصي قبل الداني، إلا أن كثرة الفتاوى تجعل المرء يعتقد بأنّ الإسلام نزل بالأمس فقط!

ولا أستبعد أن يكون عدد ما يصبّ على رؤوسنا من فتاوى في هذا العصر، يفوق عدد الفتاوى التي صدرت طوال التاريخ الإسلامي. كثرة الفتاوى الدينية دليل واضح على اختفاء دور المثقفين، والسياسيين، والعلماء، لكي يحل محلهم رجال الدين ويقوموا بممارسة أدوارهم!

والأمر المزعج أنك لم تعد تعرف المؤهل للفتيا منهم، أمّا الأمر الأكثر إزعاجاً من هذا فإنهم صاروا يعترضونَ وجهك في كلّ مكانٍ كبائعة مزعجةٍ ولحوحة.

وأخاف ــ إن لم يوضع حد لهذا العبث ــ أن يأتي يوم يصبح بإمكان المرء فيه أن يأخذ الفتوى حتى من الـ« سوبر ماركت » الذي بجانب منزله وليسجلها البائع على الحساب، ليسدد في آخر الشهر قيمة الخبز والطماطم.. والفتاوى!

al-marzooqi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر