أبواب

عبدالناصر

يوسف ضمرة

مرّت ذكرى ثورة يوليو المصرية هذا العام، وسط اضطرابات ومآزق سياسية وثقافية واجتماعية. وقد كان من المتوقع لها أن تمر في شكل مغاير بعد 40 سنة من التهميش الذي مارسه النظام المصري منذ سنة 71 وحتى ثورة يناير حديثة العهد.

لم تشهد مصر برامج ثقافية وإصلاحات اقتصادية كما شهدتها في عهد جمال عبدالناصر، وأنا أدرك أن هنالك من يتربص بمثل هذا الكلام، من سياسيين ومثقفين، وأدرك جيداً أن هنالك الكثير من الأخطاء التي شهدتها الحقبة الناصرية أيضاً. الخلاف هنا، هو الفرق بين أخطاء في العمل وضبابية الرؤية أحياناً، وبين استراتيجية معادية للشعب وطموحاته وأحلامه.

كان عبدالناصر مع الفقراء، فكانت مجانية التعليم والعلاج. وكان عبدالناصر مع الفلاحين، فكان قانون الإصلاح الزراعي. وكان عبدالناصر اشتراكياً حقيقياً، فكان العدل، وكان القانون. مشكلة عبدالناصر أنه حمل على كاهله إرثاً بنيوياً ثقيلاً، تمثل في بنية اجتماعية وثقافية واقتصادية تعود إلى ما قبل الثورة الفرنسية. لكن عبدالناصر، تمكن في سنوات قليلة فقط، من نقل مصر من عهد الإقطاع والعبودية، إلى عهد الدولة الحديثة، وهو ما انعكس على الإقليم كله، بل على الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

لم تعد الثقافة الفوقية هي المهيمنة في مصر.. روايات يوسف السباعي مثلاً، وكتابات طه حسين وآخرين. لقد خرج من جيش الفقراء المهمش جيل جديد من المثقفين والكتاب المصريين، الذين توجهوا إلى الناس، فالتقطوا أشواقهم وطموحاتهم وأحلامهم وهواجسهم، وجعلوها المتن الرئيس في الثقافة المصرية. وهو الجيل نفسه الذي وقف في مواجهة العدو الصهيوني والهيمنة الأميركية والغربية. وإذا كان هذا الجيل ـ جيل الستينات ـ نقل الثقافة إلى مربعها الأساسي، فإنه أيضاً تعرض لملاحقات ومضايقات من بعض رموز الثورة الناصرية، التي رأت في الثورة فرصة لإحلال سلطة استبدادية مكان أخرى، تحت مسميات الحفاظ على الثورة ومكتسباتها. ولكن كل ما حدث، لم يجعل هؤلاء الكتاب والمثقفين يتنكرون لعبدالناصر وثورة يوليو العظيمة. بل إن كثيراً ممن اعتقلوا وعذبوا كالشاعر عبدالرحمن الأبنودي وغالب هلسا وطاهر عبدالحكيم، وآخرين، كتبوا تجاربهم بشيء من الحرص، ومن دون ثأرية شخصية، وهو ما تبدى في كتب مثل «أبوزعبل» و«الأقدام العارية» وغيرهما. ولم يتوقف تأثير الثورة الناصرية عند جيل الستينات في مصر، حيث خرجت في الوطن العربي أجيال من الكتاب والمثقفين العرب، الذين وحّدهم الشعور القومي، والكرامة العروبية التي رفرفت في السماء العربية، فكانت الكتابات الثورية، والموسيقى والفنون الثورية، نتاجاً طبيعياً لتلك المرحلة، التي لم تعش طويلاً، بسبب المؤامرات الدولية والعربية التي استهدفت تلك الثورة، بعد أن تبين للجميع حجم تأثيرها في الأجيال العربية الطالعة.

نتذكر عبدالناصر اليوم بكثير من المرارة والحزن، لأننا اكتشفنا أن ما سمي بالثورات العربية لم تكن بالمستوى الذي انتظرناه، ولم تكن واضحة المعالم في برامجها واستراتيجياتها الثقافية المستقبلية. ويبدو أن الهم الوحيد لمن وضع يده على هذه الثورات الآن، هو الحصة التي سينالها بعد تركة الاستبداد، لا هدم البنى التقليدية، وبناء بنى جديدة على أسس ثورية تغطي مناحي الحياة كلها كما كنا نأمل.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر