أبواب

لم أجد عنواناً

سالم حميد

حبي للمسرح اللندني والنيويوركي يدفعني دائماً لزيارة هاتين المدينتين على فترات متعددة، لمشاهدة الأداء الاحترافي والموسيقى والمؤثرات المبتكرة، من دون استخدام مكبرات الصوت، فهذه المسارح تم بناؤها منذ قرون، وآنذاك لم يخترعوا بعد «الميكروفونات»، بل استحدثوا «الخواص الصوتية»، وهي تقنية حسابية فيزيائية قديمة يستطيع من خلالها المشاهد سماع ما يدور على خشبة المسرح بوضوح من دون الحاجة إلى «ميكروفون»، ولاتزال مسارح لندن ونيويورك تستخدم هذه التقنية القديمة حتى اليوم لأنها أكثر لذة للمستمع من الميكروفون الحديث.

محطة مواصلات قديمة في نيويورك لاتزال محتفظة عبر جدرانها الداخلية بتقنية الخواص الصوتية، فذهبت إليها واقتربت من أحد الحيطان الداخلية، وتحدثت ببعض الجمل ليسمعني من يقف في الجهة المقابلة من الحائط، وكذلك بعض المارة، كانوا يفعلون ما كنت أفعله ويخاطب بعضنا بعضاً بصوت مسموع واضح رغم عشرات الأمتار الفاصلة بين كل حائط، وفجأة سمعت من يخاطبني بالاسم وباللهجة المصرية «ازيّك يا عم سالم؟ بتعمل هنه إيه يا سالم؟ أنا جورج»، فخاطبت الحائط «جورج مين يا عم الحاج؟ انته عفريت ولا إيه؟!»، لم أسمع إجابة، وما هي إلا بضع ثوانٍ وارتمى أحدهم عليّ بالأحضان يقبلني.. إنه جورج، شاب مصري مسيحي، تعرفت إليه في دبي عندما عمل لفترة وجيزة في إحدى شركات الخدمات الإعلامية التجارية مصمم غرافيك، وكان ناجحاً ومبدعاً في عمله، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة ليعمل اليوم في إحدى أشهر المطبوعات النيويوركية. سألته «لماذا هاجرت؟»، فأجابني أن المسيحي هنا في أميركا لا أحد يسأل عن ملته ودينه، بل عن عطائه وعمله.

حالة جورج اليوم لا تختلف كثيراً عن حالة أكثر من 100 ألف عربي مسيحي هاجروا ما بين الأعوام 1880 و1914 إلى الولايات المتحدة هرباً من الاضطهاد الديني الذي عانوه في بلدانهم العربية، رغم أنهم من الكفاءات الذين كانت بلدانهم العربية بحاجة ماسة إليهم لتنير بعض ظلمات الجهل، ورغم ذلك بقي هؤلاء المسيحيون العرب على ولائهم لأوطانهم الأصلية، وتماماً كما أسهم أجدادهم في علوم الطب في التاريخ العربي على مر عصوره، أسهم هؤلاء برومانسيتهم وأنجبوا الشعراء وكتاب المقالات والمسرحيات، ومنهم الذائع الصيت جبران خليل جبران، الناشط الحقوقي الذي دعا أبناء جلدته، بغض النظر عن ملتهم، إلى الصراع ضد الاحتلال، وقال «إلى متى سيظل الهلال والصليب متفرقين أمام عين الرب؟»، وكذلك أمين الريحاني، الذي لم تمنعه ديانته المسيحية من الدفاع عن الحرية العربية ضد الإمبريالية الغربية بدايات القرن الماضي. وقبل سنوات قليلة عندما أصدر المفكر الإنجليزي تيري ايغلتون كتابه بعنوان «فكرة الثقافة»، أهدى الكتاب في صفحته الأولى إلى روح إدوارد سعيد.

ليت المتشددين الذين قاموا بحرق كنيستين في مصر أخيراً، يتذكرون أن أجداد هؤلاء المسيحيين العرب حاربوا مع صلاح الدين ضد الغزاة الأوروبيين!

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر