5 دقائق

«زنقة فكرية»

ميره القاسم

ما الذي ينبغي أن يفعله المثقف في هذه الظروف المستجدة على الأمة العربية، في ظل «ربيع» الثورات التي أطاحت بالتصورات القديمة عن بلادة الشعوب وخنوعها واستمرائها القمع والمنع؟ كيف يمكن للمثقف تبني إعادة بناء فكرية شاملة لإعادة النظر في النهج والأسلوب اللذين كان يعمل بهما سابقاً (السلبية والتقوقع والرضا بالتهميش والتغييب) من جهة، وفي طبيعة الدور الذي كان يقوم به ودوره الجديد الذي تطرحه عليه الثورات المتفجرة هنا وهناك؟ إن الحياة العامة في عالمنا العربي يغلب عليها الطابع السياسي، وهذا يعطينا الحق، ويمنحنا كامل الحرية في النظر إلى المثقف عموماً والشعراء بوجه الخصوص، بوصفهم مثقفين يولون أهمية لوطنهم العربي من خلال أدورهم في المجتمع، وهذا الكلام لا يعني أن يعارض المثقف من أجل المعارضة ذاتها أو من أجل مصالح شخصية تخصه، بل لمجرد طرح الأسئلة الكبرى، ووضع علامات فارقة في حياة المجتمع الذي ينتمي إليه. والمثقف الحقيقي كائن غير مقيد، يعلو على كل الأطر الاجتماعية والسياسية والحزبية السائدة في مجتمعه، لذلك فهو جزء من إطار الصورة العامة للمجتمع الذي ينتمي إليه، كما أن صوت المثقف الحقيقي هو صوت المعاناة الجماعية لشعبه بالذات، والشهادة على آلامه، والتأكيد على وجوده الثابت وتعزيز ذاكرته، وحتى في بعض الحالات التي يكون فيها المثقف معارضاً للسلطة أو على خلاف معها، فإن هدفه تقديم الأفضل والأجمل للناس والوطن، لأنه بطبعه يرغب في بناء وطن جميل، ما يترتب عليه ألا يكتفي بالجاهز من تراكم الممارسات الثقافية الروتينية. والمثقف الحقيقي لا ينفك مشغولاً ومهموماً بما يجري حوله في المجتمع، لهذا يكرس جهده في دراسة واقعه وتحليله من جوانبه كافة، ولا يكتفي بمجرد الإشارة العابرة إليه من خارجه، أو يقوم بالتركيز على بعض قضاياه الحية، من قبيل التركيز على قضايا الفكر والإبداع الأدبي فقط، بل يحفر في قلب كل القضايا التي تهم مجتمعه بمختلف اختصاصاتها، بيد أن كثيراً من المثقفين العرب غالباً ما ينشغلون بقضاياهم الفكرية والأدبية، وقد أدى هذا التصور إلى حصر المثقف في «زنقة ضيقة» من «زنقات الفكر»، وخط له خطاً محدداً يسير عليه ولا يحيد عنه، لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، حتى إن كثيرين وجدوا الأسلم والأحوط أن يرسموا هم لأنفسهم خطاً أحمر حتى لا يقعوا في المحظور، متبعين في ذلك المثل السوري الشهير «لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات مزعجة».

لكن هل يصلح النوم الآن؟ وكيف يستطيع المثقف أن ينسلخ عن صرخات ومعاناة الشعوب التي يفترض أن يكون ضميرها وصوتها والناطق باسمها وشارح حالها؟ هل سيظل المثقف يحلق بعيداً عن نبض الشارع وشؤونه غارقاً في قضاياه المتخصصة، في حين أن حياتنا كلها معجونة بالسياسة وهمومها وإشكالاتها. بالطبع ليس المطلوب أن يتحول المثقف إلى منظّر سياسي، لكن من المفترض - أو على الأقل هذا ما يتوقعه الناس منه - أن يكون له رأي واضح، وأن يتحلى بالجرأة للتعبير عنه. أعتقد أنه آن الأوان لكي يعيد المثقف العربي النظر في دوره وسلوكه وعزلته، وأن يبادر إلى تغيير الصورة النمطية التي تشكلت عنه لدى المتلقي، وهي بالمناسبة صورة لا تسرّ.

wahag2002@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

تويتر