أبواب

تأسيس المجتمع تخيّلياً

قيس الزبيدي

** يقول مثل يوناني: «الإنسان الجائع يحلم بالخبز». ويقول كاتب: «الإنسانية هي من هو جائع».

إنسانية جائعة إلى ماذا؟

عانت الإنسانية وتعاني الجوع إلى الغذاء، وعانت الجوع إلى الثياب وإلى السيارات وإلى التلفزيونات، وعانت الجوع إلى السلطة وإلى المعرفة وإلى الحب وإلى التآخي وإلى الأعياد وإلى المآسي، كما أنها تحس بالجوع إلى القمر والكواكب. لا يمكن للإنسان أن يوجد إلا بعد أن يحدد نفسه في كل مرة كمجموع من الحاجات والموضوعات المتطابقة، التي يشكلها هو فيما يُشكّل ويُشكّل ذاته، لأن «اللوغوس ـ العقل» الذي يصغي إليه، هو دوماً «أحد» ليس في وسعه أن يعرض أفكاره متذرعا بنظرية يزعم أنها محكمة البناء، لكنه مع هذا يتكلم ويجعل خطابه خطاب من يصغي ليتماهى معه، كما تماهى ملايين الألمان مع خطاب هتلر، وتماهى الملايين مع خطاب ستالين.

مؤلف الكتاب كورنيليوس كاستورياديس، دار المدى ـ دمشق ،2003 هو مفكر يساري يوناني الأصل عاش ونشط في باريس وشارك حتى في أحداث ثورة الطلبة، التي شهدتها فرنسا في مايو ،1968 وإبان تأبينه في عام ،1997 عرفه المؤرخ بيير فيدال ناكيه بقوله: «كان قريبا من عصر النهضة، ومن الموسوعيين، ومن أصحاب تركيبات القرن التاسع عشر الفلسفية».

لا يسعى المؤلف إلى بلورة نظرية للمجتمع وللتاريخ، لأنه يرى: «من الممكن وجود إنسانية من دون نظرية، لكن من غير الممكن وجود إنسانية من دون عمل، يحاول البشر من خلاله التفكير في ما يفعلونه، ومعرفة ما يفكرون فيه، ويرى أن التاريخ إبداع لا حدود له»، و«أن العالم المعيش هو في كل مرة إبداع اجتماعي ـ تاريخي ملموس، وأن المجتمع هو خلق فريد وتأسيس ذاتي، لا ينقسم إلى طبقات، إنما ينقسم بين من يقبل النظام القائم على التبعية والاستلاب، وبين من يرفض هذا النظام».

وعلى قاعدة تزاوج الحرية الفردية والحرية الجماعية، تأتي الثورة كلحظة وعي المجتمع ذاته ونجاحه في تأسيس ذاته بذاته، أما الديمقراطية الحقيقية فهي تمثل النظام الوحيد الذي يتوافق مع استقلالية المجتمع بأبعاده المختلفة، ويحرك كل هذا الإبداع ما يسميه كاستورياديس «المخيّلة الراديكالية» التي هي جذر لكل حياة الإنسانية ومنبع لكل إبداعها، فالإنسان ليس «حيوانا عاقلا»، بل هو «كائن متخيّل» وليس نظامه الاجتماعي نتاجا للعقل، بل لإبداع مخيلته.

واستنادا إلى «المتخيل الراديكالي»، تكون الذات الإنسانية قادرة على تحوّل نفسها وتعدّل هويتها وتغيّر نظام العيش في المجتمع.

الخطوة الأولى تتمثل في إبداع تخيلّي جديد لمجتمع يتحرر من الاستلاب، ويطرح أهدافا للحياة مختلفة على قاعدة تنظيم لمؤسساته الكاملة، يعاد فيه تنظيم العمل وتحويله من سخرة إلى حقل لتفجير الطاقات الإبداعية، ويصبح فيه الاقتصاد مجرد وسيلة للحياة الإنسانية وليس غاية نهائية لها، ويستند إلى ديمقراطية تضمن مشاركة الأفراد المستقلين في وضع القوانين واتخاذ القرارات.

يسأل مترجم الكتاب، الباحث د. ماهر الشريف «هل يندرج هذا الهدف في إطار طوباوية حالمة؟»، بوسعنا أن نقول مثلاً: «أليست الثورة الديمقراطية في مصر، وهي تبتكر مجتمعها الإنساني الجديد، هي نتاج لتلك المُخيلة الراديكالية، التي كان المؤلف يحلم بها، ويتنبأ بدورها في المستقبل؟».

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر