أبواب

استنساخ «البلطجية»

زياد العناني

يبدو أن النظام العربي لم يعتد بعد على رؤية المسيرات السلمية التي بدأت تطوف الشوارع منددة بسياساته، بعد أن كانت هذه المسيرات في ما مضى مخصصة للتأييد والولاء، وتقوم على أكتاف فئة مستفيدة ما انفكت تحاول نفي الآخر الشعبي وإنكاره، غير أن هذا النفي العصابي لم يتوقف عند حدوده القصوى في منطقة الكلام، بل تمدد إلى حدود ظاهرة جديدة أطلق عليها «البلطجة»، راحت تستنسخ بعدما حدث في ميدان التحرير على أشكال عدة تديرها بعض الأنظمة في عزّ العتمة، وتورطت فيها أجهزة أمنية أُعدت لخدمة الشعب، وصارت تمارس هذه الخدمة في القمع الدموي، لا غير.

غير أن اللافت في لعبة «البلطجة» هذه، يكمن في التحايل الذي تمارسه هذه النظم حين تدعي أنها لا تعرف من هم «البلطجية»، ومن يقف خلفهم، وكأنها بذلك تعترف من حيث لا تحتسب، أن هناك مجموعات من «المافيات» والعصابات خارج نطاق سيطرة الدولة، كما تعترف بأنها لا تستطيع أن تضمن أمن المواطنين العزّل الذين يطالبون بالديمقراطية والإصلاح بشقيه السياسي والاقتصادي، ومحاربة الفساد ورموزه، الذين صاروا دولة في بطن الدولة.

من هم «البلطجية»؟ وكيف تقرّ بعض النظم العربية بوجودهم في الوقت الذي تدعي فيه أنها نظم إصلاحية؟ ثم كيف لهذه النظم أن تضع كل ما تتشدق به من كلام حول وجود الدولة المدنية في يد كتائب من قطاع الطرق، تشنّ هجوماً على الداخل بهراوات توصف من قبل المراقبين بأنها تحمل اللون والحجم والشكل نفسه، وتستورد خصوصاً للقوات الأمنية.

قبل أسابيع، وجدت بعض النظم العربية نفسها أمام متظاهرين سلميين، فشعرت بالحرج، واعترفت بأنها لم تكن قريبة من الواقع، وقالت «لقد فهمناكم»، غير أن هذا الفهم ختم بتصرف خطأ غلّب النزعة الإذلالية التي حاول مبدعوها تأكيد الاستقرار عبر الصامت والخائف وعبر القتل، من دون أن يدروا أنهم عبّدوا في الشارع العام أرضية مناسبة للصمود وقوة المعتقد القتالي.

ولأن بعض النظم العربية تفتقر إلى مرجعية الفكر السياسي كانت القاصمة التي تتمثل في تورطها في احتقار الإنسان العربي، فكان المقابل أن هذا الإنسان أعاد الاحتقار إلى ذويه، وخرج من معطف العقد السياسي، وهزّ العلاقة الطوعية المفترضة بين الحاكم والمحكوم.

إلى الآن لم تفهم بعض النظم خطيئة استثمار العقل البوليسي في منطقة الحراك الشعبي، وربما لن تفهم إلا إذا رجحت الخيارات العقلانية، من خلال طرح ثقافة مذنبة مستعدة للإصلاح، وتعي أن الدول لا تدار على مبدأ الهبات والأعطيات التي تدفع لثلة محددة ترى أنها الشعب كله.

وأخيراً، وبعد كل هذا الدم، صار على بعض النظم العربية أن تدرك مبدأ نهاية الخدمة، وأنه لا يمكن إعطاؤها طابعاً أبدياً في ظل واقعها الاستبدادي، وأن التغيير، أي تغيير، سيكون في مصلحة الحاكم والمحكوم، شرط أن تتخلى هذه النظم عن نصب الفزاعات الكاذبة، مرة باسم الخوف من المشارب الأيديولوجية والدينية، ومرة باسم الخوف على حركة السير، وتتفهم أن نسيانها آدمية الإنسان التي تتخاصم معها بالرصاص الحي جريمة لا يمكن أن يؤدي إلى استدامة الحكم ببنية التسلط العمياء.

zeyad_alanani@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر