أبواب

اغتيال الصورة

يوسف ضمرة

يختفي ميدان التحرير من كادر الصورة، ليس ثمة خلل فني أو سهو مصور أو مخرج، وإنما ثمة غياب للكاميرا، أو بصورة أصح، ثمة اختطاف للكاميرا أو اعتقال أو توقيف أو ما شئت.

وهذه ليست المرة الأولى في العالم العربي، ولن تكون الأخيرة.

والسؤال هو: هل ثمة حقد قديم على الصورة؟

لقد اعتاد المستبد والدكتاتور رؤية وجهه في كاميرات المقربين والمتزلفين والمنافقين والانتهازيين والوصوليين، وهي صورة مزوقة، حيث يقوم هؤلاء الناس بمعالجة الصورة قبل إظهارها أمام المستبد والطاغية، الذي سرعان ما يفاجأ بالجمال المزيف والوهمي.

يصحو الطاغية والمستبد ـ أي طاغية ومستبد ـ على صورة مغايرة، فيفاجأ بكل تلك الدمامة، وكل ذلك القبح في الملامح، ويفاجأ أكثر ببقايا الدم على شفتيه.

والطاغية يرتكب كل ما يمكن تخيله، وما لا يمكن، من أشكال القمع والتنكيل، ويرغب في الوقت نفسه، في سماع عبارات الترحيب والتهليل، لكي يبدو منسجماً مع ذاته، وحين يسمع عبارات الاستهجان والاستنكار يصيبه الرعب،

هكذا يستبد الخوف بالطاغية، وهكذا يلجأ إلى اغتيال الصورة الجديدة، الصورة التي ما اعتاد رؤيتها يوماً، ولم يفكر في أن الناس يمكنهم رؤيتها، ولو بعد حين.

وهكذا تتكسر المرايا المستوية، ويصبح الإعلام مرة أخرى ضحية المستبد والطاغية، الذي لا يرغب للآخرين إلا في رؤية وجهه الزائف.

والإعلامي يدفع حياته ثمناً للحقيقة، إنه «بروميثيوس» سارق النار لكي تهتدي البشرية، والذي لا يخاف عقاب آلهة الأولمب، ولذلك هو مستعد لمصيره التراجيدي، منذ تسلح بالقلم والكاميرا.

نحن نحتاج إلى هذه الصورة الكريهة، لكي نعرف معنى القبح جيداً، فهذه هي الطريق الرئيسة لمعرفة الجمال وإدراكه، لابد من النقيضين، ولابد لنا من التمعن في الملامح جيداً، لئلا نسقط مرة أخرى في فخ الصورة المزيفة، نريد الصورة الحقيقية، أياً كان مدى القبح الذي تنطوي عليه، لأن الجمال قابع في مكان ما في خيالنا.

يرغب الطاغية في إحراق مدن وشعوب، وهو يدرك أن ثمة عيناً تتربص بما سيقوم به، وهي عين الصحافي والإعلامي التي لا تسهو ولا يرف لها جفن. هما نقيضان وضدان لا يلتقيان، ولهذا يود الطاغية أن يقلع تلك العين ويفقأها إلى الأبد، لكي يظل محافظاً على الصورة المزيفة التي يراها في مرايا الأتباع المازوشيين.

يعرف أن له مقدرة لاتزال تهيمن على كثير من العقول، ويعرف أن الوقت ثمين، وعليه أن يشتري منه قدر المستطاع، لكي يستعين بمزيد من المجمّلين، خصوصاً أولئك الذين لهم صورة طيبة ـ إلى حد ما ـ بين الجماهير.

لا يخاف الطاغية الموت، مقدار خوفه على صورته التي سوقها عبر عقود، مبتسماً وضاحكاً ومقهقهاً، متواضعاً أمام رغبات الشعب والجماهير العريضة، التي تهتف له وتسبح بحمده، ولكنه لا يدرك أن هذه الجموع قد تعبت من نير العبودية الذي أثقل ظهرها، وأن باستطاعتها أن تلم قواها وتقول«لا» مرة واحدة وإلى الأبد.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر