كل جمعة

الدولة 193

باسل رفايعة

لا يخفى على كل من شاهد أخبار الاستفتاء في جنوب السودان، أن شعبه يعيش لحظة تاريخية، بكل ما يعنيه ذلك من زهوّ وطني، وتوق إلى الحرية والاستقلال، والتطلع إلى مصير جديد صنعه مليونا قتيل، وسنوات من الاحتراب والنزاع التي غيبت عنها التنمية الحقيقية، وحضر فيها التطرف بكل نتائجه المُرّة.

ما يشهده الجنوب يوجه رسائل في اتجاهات عدة، ويوضح حقائق، لمن ينام على أحلام الوحدة وأناشيدها، ولا يرى ضحاياها، الوحدة الإجبارية بين أجزاء جسد يتشظى، الوحدة المرفوعة في الشعارات، وخلفها يتوارى الموتى والفقراء والانكسار اليومي.

لا يريد الجنوبيون تلك الوحدة، يريدون وطناً خالصاً، وحلماً خالصاً، وإنْ حوّلته أحوال إفريقيا وتخلف الداخل إلى كابوس مفزع، يريدون الانفصال عن بلاد لا تشبههم ولا يشبهونها، ويقولون: نعم لكل ما يجعلهم بعيدين عن الشمال، فالهجرة إلى بلاد جنوبية جداً لها هذه المرة نكهة حلوة في البحث عن الذات، ولا بأس بكل المرارات الأخرى.

شاهدنا على الفضائيات صور طوابير من البشر أمام مراكز الاستفتاء، وكلها مملوءة بالحماسة في الطريق إلى الوطن الذي بات وشيكاً، لأن الشعوب الحيّة تتمسك بإرادتها، وتصنع مستقبلها، مهما كلفها ذلك من ثمن، فهي تدرك تماماً أنه ثمن للحرية التي لن تبخل بخبز كثير من سلة تعودت على حصاد وفير، لولا أن جراداً دهم السنابل في ما مضى من ماضٍ، سيفعل الجنوبيون أي شيء لئلا يعود.

جماليات المشهد في الجنوب تطغى على كل المخاوف والاحتمالات، وقد يكون الأسوأ مر فعلاً على هذه الأرض الغنية بالنفط والأحلام، فتصعد في غضون سنوات دولة قوية، وتنفصل فعلاً عن كل معضلات الجوار، وتصنع الاستثناء بعيداً عن كل قواعد إفريقيا، وكل «قاعدة». على أن ذلك لا يعني تبسيطاً لمفردة الانفصال ودلالاتها السياسية والاقتصادية، ولا إغفالاً لمصالح دول في ذلك، لكن المصلحة للجنوبيين أولاً، وإنْ التقت مع أمنيات أو خطط، فلا ضرر في ذلك، بل إن الضرر الحقيقي هو في بقاء الحال كما كانت قبل الاستفتاء.

ثمة من يحاجج بأن الانفصال سيؤدي إلى دولة أكثر قرباً من الولايات المتحدة، وذلك سيمنح واشنطن مزيداً من السيطرة في جزء بات حيوياً من إفريقيا، وثمة من يرى أن البلد 193 في الأسرة الدولية، سيكون ضعيفاً، ولن يجد سوقاً واسعة لمنتوجاته الزراعية، وسيضعف اتصاله بالعالم العربي، وإلى غير ذلك من حجج.

سيكون من حظ الجنوبيين أنهم سيجنون مكاسب الاقتراب من الولايات المتحدة، ببنية تحتية راسخة من المطارات والشوارع والمؤسسات التعليمية والصحية، وسائر المرافق الحكومية الضرورية لبنيان الدولة، فليس مطلوباً أكثر من البراغماتية السياسية لأي دولة ناشئة، كما أن السوق القديمة فقدت معناها بالتطور التكنولوجي الهائل في العالم الحديث، فالخضار والفاكهة والحبوب لا تُنقل ولا تُصدر على ظهور الدواب، والخرطوم لن تغلق حدودها في وجه جوبا، من أجل مصالحها أولاً.

أما ابتعادها عن العالم العربي الديمقراطيّ جداً، فربما يكون خسارة له، وليس للجنوب الذي بدأ يومه الأول في تجربة الدولة باستفتاء حُرّ، الكلمة الأولى والأخيرة فيه لصناديق الاقتراع.

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر