أبواب

شجاعة العقل

زياد العناني

يعيد الباحث حاتم الزهراني الاعتبار إلى الفكر في الشعر العربي في كتابه اللافت «شجاعة العقل»، ودراسته الفكر الشعري عند المتنبي، ليس لأنه ملأ الدنيا وشغل الناس، بل لأنه خرج مختلفاً من لحظة الاستعداد الفطري، وابتعد عن العفوية التي كانت مدرسة تفضل العلائق الفطرية والقلبية، وقصائد الخمرة والمجون، في مجمل نطقها، على العقل والحكمة معاً.

الزهراني الذي رأى أن فكرة العقل التي استخدمها المتنبي كانت لتقديم رؤيته للكون والناس والأشياء، لا تشي بنزعة التأمل لديه فقط، وإنما تبين قوة مساءلته المعرفية لجملة من المضامين الوجودية الحاضرة في زمانه، وبما تحتويه من أفكار كبرى تطرح نفسها في العقل العربي، كما تطرحه في العقل الإنساني كله.

وبناءً على نزعة التأمل لدى المتنبي وقوة حضورها في قصيدته، أوجد الزهراني علاقة جدلية وثيقة بين الرؤية والأسلوب في نصّ المتنبي الشعري، وتوقف عند مفهوم العقل في شعره، طارحاً جملة من الأسئلة حول علاقة اللغة في مستواها العادي، قبل أن تصبح شعراً، وبالرؤية التي يكونها الإنسان عن الوجود من حوله، ثم يكتبها في دراسته التي ترمي إلى فهم أن الشعر ليس له نسخة واحدة محددة، وأن من يؤمن بنسخة واحدة، لا يجوز له مناهضة بقية النسخ الأخرى.

غير أن ما يهمنا في هذا الشأن، هو أن الزهراني ما انفك يؤكد أهمية شعرية الفكر في الشعر العربي، مستغرباً كيف أن بعض مدارس النقد العربي لم تأخذ العقل أنموذجاً لرؤية العالم، وقصرت في فهم الصور الذهنية، ودورها في إثراء القصيدة العربية وديمومتها، وبقاء توهّجها عبر العصور، لاعتبارات مريضة بصحتها، تؤكد أن مفهوم العقل في الثقافة العربية ما كان بخير، ولن يكون بخير، مادام محصوراً في هذا الأفق الضيق.

ومن هنا شرع الزهراني في تحليل النصوص، وقسّم أنماط العقل في شعر المتنبي إلى نمطين اثنين، وفق مرحلتين تاريخيتين: مرحلة الغياب التي تمتد من قصائده الأولى حتى المرحلة التي تسبق لقاءه سيف الدولة، ومرحلة الحضور التي تبدأ مع «السيفيات» وتشمل بقية شعره، إضافة إلى مقاربته أبرز عناوين الحياة حضوراً في شعر المتنبي، وهي الأنوثة التي لم يتطرق النقد العربي إليها بمباحث خاصة ومستقلة.

ربما تأتي أهمية كتاب الزهراني من كونه الكتاب النقدي الأشمل في تركيزه على الفكر الشعري الذي ظل مغبوناً على الرغم من شهرة المتنبي، وغير ممثل في المدونات النقدية التي كانت تتناسى جملة من الشعراء الذين برعوا في قصيدة الفكرة، كأبي تمام والمعري والخيّام وابن عربي، من غير أن يحصروا نطقهم في بعده الغنائي، وأدركوا قبل غيرهم أن الشعر ليس محصوراً بما يشعر به الشاعر من فورة جيّاشة، وإنما هو في الظاهر والباطن فكرة تحتاج إلى روح شعرية متوهّجة تعاين الحياة أو الموت، وتمتحن دواخل الشاعر النفسية والرؤيوية، ثم تقطر الوجود في قصيدة خالدة.

zeyad_alanani@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر