كل جمعة
فيروز: خبز وملح.. ورضى
تُصوّب فيروز في جديدها «ايه في أمل» أخطاء كثيرة، اقترفتها الأصوات الرقمية في سوق المقاولات الغنائية، بصناعتها الرديئة، وصخبها الذي لا يقول شيئاً، بل لا يسعى إلى ذلك، أو لعلها تصّوب الأغنية العربية من صراخ عطبَ الذائقة، وذهب بالصوت نفسه، حتى كدنا نسمع صياحاً واحداً، لا همّ له سوى رفع منسوب الهرمونات الجنسية، على نحو بالغ الإسفاف والرداءة، بما يسيء إلى الجنس نفسه خطاباً وفتنةً وجماليات.
جاء جديد فيروز، ومعظمنا في استماع طويل للقديم، مع تواصل غالبية الحديث في آلاف الصرخات المعبأة في كلمات تئن من فرط الهزال الفني والجمالي، والمقحمة على أصوات آلات موسيقية، تستعير مقطوعات مزعجة من هدير محركات، أو ربما من دحرجة صخور على سطوح معدنية، وفوق هذا الأذى كله، صور متحركة جداً لأشباح، وفوضى بصرية في منتهى القبح والضرر.
هنا فيروز، هذا هو الصوت القديم، وهذه هي الأغنية، حنجرة عمرها 75 عاماً، لا ندوب فيها، ولا تجاعيد، حنجرة فيروز إياها، وحين يختلف الصوت قليلاً عن ذاكرتك، فلا أصحّ من أن تقول إن أذنك هي التي تشيخ، صاعداً بالعطش إلى أعالي الحماسة والمياه.
كلنا يعرف فيروز، منذ شتاءات بعيدة، وعشاق بعيدين، وهي غزيرة المطر والثلج، ولاتزال تستحث السماء بصوتها المكتظ بالأساطير والغيوم والجبال، وكلنا يعرف زياد الرحباني الذي علّم فيروز كثيراً من أسرار الفنان، دون جينات الوراثة (عمره الآن 55 عاماً)، وبينهما تغيرنا نحن كثيراً، أو كبرنا بما يكفي لنرفع مكبر الصوت، ونصغي إلى فيروز وزياد، مع بعض دموع ودهشة.
هذه هي الأغنية: «حبيبي.. في ماضي منيح بس مضى/ صفّى بالريحْ بالفضاْ/ وبيضلْ تذكارْ عن مشهد صارْ/ في خبزْ/ في ملحْ/ في رضىْ». وقبلها كانت أغنيات عن عالم مثالي، لا شرور فيه، ولا غضب، تكبر فيه الأشجار سريعاً من أجل العشاق، وتنام الحقول تحت حراسة القمر، وكل ذلك مضى إلى غير رجعة، وإن عاد فالصور من أبيض وأسود فقط.
ماذا تبقّى من فيروز، أو بالأحرى فيروزنا؟ ثم ماذا تبقّى من الذين حافظوا على مكانهم في الرحلة القديمة معها، وتذكروا غزارتها الشديدة في الغناء والمسرح والسينما؟
تبقّى من فيروز كلها، كل الفتنة، وكل الاختلاف، وكل الصوت المشدود إلى طاقة مستبدة من الحنين، وكل الفنّ الذي لم ينقطع، وظل موصولاً بعبقرية زياد الرحباني الذي كتب أغنيات المجموعة الجديدة، ما عدا واحدة لجبران خليل جبران، وفيها عادت فيروز بقوتها وأسرارها الفذة إلى الغناء باللغة الفصيحة، بحنجرة جبّارة، تُذكر بقديمها المتفرد من قصائد قيس بن الملوّح وعنترة والموشحات، وغيرها.
فيروزنا أيضاً لاتزال على قيد الأمل والشمس، وإن تغيّرت الصباحات والشتاءات، ومعها الطرقات التي كانت تؤدي إلى ساحة كلها ضحك ورقص، وزياد لايزال بعوده الرنّان يُزعج كل مقاولي الموسيقى وهواتها في الوطن العربي، أما نحنُ المرضى بالحنين، فمصابون بالإنكار، ومرتابون من التغيير، مع أن إيقاعه يشهد كم أن الحياة تمرض أيضاً حين لا تفيض برونقها في كل لحظة، رغم «الحور العتيق، ورمل الطريق».
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .