أبواب

بيض وحليب وعسل

قيس الزبيدي

بدأ العرض التجريبي لفيلم «عسل» في بعض صالات برلين الصغيرة بلغته التركية الأصلية، مع ترجمة ألمانية على الشريط، على أن تُبرمج عروضه، أولاً، في الصالات التجارية الكبيرة بدءاً من التاسع من سبتمبر، بعد دبلجته إلى الألمانية. ويصاحب عرض الفيلم حصوله على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الأخير، إضافة الى حصوله على جائزة التصوير وجائزة الجمهور في مهرجان تركيا. كذلك يصاحب عرضه احتفاء تضامني من قبل الصحافة التي يجده نقادها فيلماً فنياً مليئاً بالجمال والأسرار، فيلماً يؤثر في مشاعر مشاهديه ويحرك أحلامهم ويمتع أبصارهم. يأتينا «عسل» في زمن جفاف سينمائي، مثل قصيدة من البحر الأبيض المتوسط.. تجربة للعين وللأذن، لا يمكن نسيانها.

يبدأ الفيلم في غابة بلقطة عامة ثابتة من خمس دقائق، تُسمع فيها أصوات طيور وهمس ريح، ويظهر من خلفية الصورة رجل يقود حماره، بينما يتقدم ببطء، حتى يصل الى مقدمة الصورة، يتلفت حوله ثم يسحب حبلاً ويرمي به الى غصن عالٍ ويتأكد من تثبيته، ويأخذ في تسلق الشجرة العملاقة. وحينما يسمع صوت غصن الشجرة ينكسر، يرفع نظره الى أعلى ويتوقف عن الحركة. وفي لقطة قريبة أخيرة يبدو معلقاً بين السماء والأرض بلا حول ولا قوة. عندئذ يظهر عنوان الفيلم «عسل»، وهو الجزء الأخير من ثلاثية للمخرج الواعد سميح كابلان اوغلو، ثلاثية فنية ذات أسلوب وكتابة مميزة، مشحونة، رغم واقعيتها، بأساطير ورموز مُلغزة.

والثلاثية تسلسلها معكوس، فالفيلم الأول «بيض» يحكي عن رجولة الشاعر يوسف، وهو شخصية مترددة خجولة وغريبة الأطوار، يعود إلى قريته بعد وفاة والدته. والفيلم الثاني «حليب» يحكي عن مطلع شبابه، أما الثالث «عسل» فيعالج فيه طفولة يوسف، الذي يعاني مرض «التلعثم» وعلاقته الحميمة بوالده النحّال، الذي يكسب عيشه من حصاد نحل العسل الأسود الشهير في منطقة زاير، الواقعة على شاطئ البحر الأسود في شمال تركيا.

يتجاوز الطفل لعثمته وهو يقرأ لأبيه من أجندة، وحينما يحاول أن يحكي له حلمه، ينصحه الأب بأن على من يحلم ألا يروي حلمه. لكنه بوسعه أن يهمس به، يعاود يوسف في المدرسة تلعثمه بألم، من دون أن يتمكن من تجاوز عاهته.

تمثل الغابة بالنسبة للطفل ولأبيه، مكاناً خرافياً، مملكة ساحرة، تشكل مصدر عيشهم. غير أن الكارثة المفاجئة، التي تحل بالنحل، تضطره إلى الذهاب الى منطقة جبلية بعيدة، يصعب الوصول إليها، ويختفي أثره ولا يعود.

روعة الفيلم، كونه شاعرياً، لكن من دون أن يلجأ إلى المجاز أو إلى الاستعارة، إنما يستعمل ما في الطبيعة من علامات بصرية، ليجعلها تتفجر بشعر مهموس، بسحر صامت. وحتى حلم يوسف يبدو واقعياً، على الرغم من جماله: ينعكس ضوء القمر في دلو من الماء ويتراقص، تداعبه يد الطفل فيتموج، ويتكرر اختفاؤه تحت الماء وظهوره.

تجربة فريدة ونادرة في السينما، قد تجد، على الرغم من حملات التضامن، صعوبة في الوصول الى جمهور واسع، خصوصاً ان أفلام النجوم الأميركية والإثارة، لاتزال تحتل الصالات التجارية الكبيرة وتستحوذ على جماهيرها.

alzubaidi0@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر