كل جمعة

نصر حامد أبوزيد.. الذي يبقى

باسل رفايعة

لا تنتهي حياة مفكر فذّ وشجاع مثل ناصر حامد أبوزيد بالموت الذي ليس هو أكثر من غياب فيزيائي، حينما يتعلق الأمر برجل أفنى سنوات عمره في مواجهات فكرية شديدة الشراسة مع التخلف والجمود، وتحمّل كلفة شخصية وإنسانية، نتيجة إيمانه بحرية التفكير، وأهميتها في التنوير والنهضة الحضارية، في عالم عربي جداً، لايزال محروساً بالقداسات، ومحكوماً بها.

الأفكار الحية لا تموت، وأبوزيد أحد العظماء الذين دعوا إلى تحرير الثقافة العربية من سلطة فكرية مهيمنة، لا تقلّ شمولية وتشدداً عن النظام السياسي، إن لم تكن تعبيراً بليغاً ومطابقاً له، بصورة أساسية.

لقد تصدى أبوزيد الذي رحل الإثنين الماضي، في مواقفه ومؤلفاته، لتراث من الجمود، تحت نفوذ النصوص، والفهم الرسمي القاصر لدواخلها وحدودها. الفهم الذي جعل العقل العربي معطلاً عن السؤال والنقد، طيلة قرون، فلم ينتج معرفة جديدة، وظل يرتعد، ويتردد في الاشتباك الحقيقي مع المعرفة الإنسانية، حتى بلغ في انحداره التاريخي مرحلة نعيشها جميعاً الآن، تتسيدها ثقافة موت، تستمد ذرائعها من الفهم السلفي للنصوص، فتقتل البشر في الطائرات والقطارات وحفلات الزفاف، في تلك المشاهد الانتحارية للعقول التي تنتحر، قبل الأجساد.

كان أحد الذين قرروا أن عقدة النقص الأساسية التي يعاني منها العرب تكمن في خوفهم من الحرية، وتسليمهم الكامل لسلطة التراث الديني، من دون أية محاولة لفهمه في سياق عقلي معرفي مختلف، وغياب الجرأة على نقده، خوفاً من عواقب التحريم والتكفير التي عانى منها أبوزيد، بعدما صدر حكم قضائي في مصر بتفريقه عن زوجته، أدى إلى هجرته من بلاده ليقيم في هولندا نحو 15 عاماً حتى وفاته.

كان صعباً على النخب العربية أن تجادل ناقداً خلافياً، فتركت أبوزيد تحت رحمة تجار الإفتاء وفقهاء السلطة، ليواجه تهم الإلحاد والكفر، ما جعله غير آمن على حياته في وطنه، حيث يستطيع أي محام مبتدئ أن يكسب قضية ضده، بشرط أن يُدلي أي رجل دين بشهادة تؤكد أنه ملحد أو كافر.

كان الراحل يرى أن الأمة العربية أهدرت قروناً كاملة في الانهماك في نسخ النصوص وشرحها، وكان النظام العربي الرسمي في ظل ذلك يمارس دوراً لا يقلّ هيمنة وتواطؤاً عن الكنيسة في العصور الوسطى، فيحظر النقد والتأويل، ويرى أن الاجتهاد في النص باب مفتوح على الكفر، ولا شيء يكفل رسوخ السلطة العربية الرسمية أكثر من تحالفها مع السلطات الدينية، بقوانينها القطعية، وبقيمها التي ترفض الحوار والجدل، وتعتبرهما تهديداً لقدسية النص وحرمته.

الأمم المتطورة تعتذر عن أخطائها في إطار فهمها للتاريخ وتطوره. وأبوزيد يستحق الاعتذار له بعد رحيله. لأنه اعتذار عن النفي والإلغاء. ولنتذكر أن الفيلسوف والعالم الإيطالي غاليليو رفض في عصر بطش الكنيسة وهيمنتها أن يعلن أن الأرض ثابتة لا تتحرك، فاختار النفي والإقامة القسرية في منزله حتى توفي عام ،1642 لكن الكنيسة الكاثوليكية اعترفت بشدة الخطأ الذي اقترفته بحقه، فاعتذرت له رسمياً، بعد قرون، وتحديداً في عام .1983

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر علي إسمه

تويتر