القتلى وهم أحياء

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لا يكاد يعرف الناس القتل إلا بمعنى إزهاق الروح عدواناً وظلماً، وهذا لعمرو الحق إفساد عريض في الأرض، و«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»، بل إن الله تعالى جعل قتل النفس الواحدة كأنه قتل للناس كلهم؛ لأنه اعتداء على النوع الإنساني كله، وحري بجنس الإنسان أن يهبّ هبة رجل واحد لحماية أحد أفراد جنسه من العدوان، وأن يذود عنه الطغيان، فإن لم يفعل فإنه قد خان الأخوة وخذل البشرية، وساءت بينهم الطوية. إلا أن القتل الآخر للنفس البريئة بغير حق هو ذلك الطفل الذي يلقى على قارعة الطريق، أو يأتي على غير الوجه الحقيق، إنه اللقيط وولد الزنا، فإن هؤلاء هم قتلى وإن كانوا في الواقع أحياء، إذ: ليس من مات فاستراح بميْتٍ إنما الميْت ميت الأحياء

ولئن كان ذلك الذي انتقضت بنيته وأُزهق روحه قد قتل مرة واحدة، فهذا الذي يعيش بين الناس ولا أب له يقتل في كل يوم بل في كل ساعة، يوم أن يعرف معنى الأبوة والنسب والقبيلة والحسب، ويجد نفسه عرياً من ذلك، فيشعر بأنه من سقط المتاع، فإذا قال لا يُسمع، أو شفع فلا يُشفّع، ويتمنى أن لو كان نسياً منسياً، أو حجراً ملقى.

ومازلت أذكر متألماً يوم أن جاءتني شابة فائقة الجمال سوية الخلقة، وقد تقدم لها فتى، فتعقد وضعها، فذرفت عيناها قائلة: إن كان غيري أخطأ فما ذنبي أنا؟ فقلت لها مطمئناً: لا ذنب لك، ولا تزر وازرة وزر أخرى، و أنت في كنف دولة حامية وقلوب حانية، الكل لك راع، ولوضعك واع، فلم يغن عنها ذلك شيئاً، ومازالت تتكرر مثل هذه الصور بعدد غير قليل، تطالعنا بها الصحف أو تتناقلها الرواة من مرتادي المساجد ودور الإيواء والمشافي، أفلا يتقي الله أولئك الجناة الذين يعكرون صفو الحياة بشهوة نازية، وفعلة نابية، فمن ينصف تلك النفوس والمجتمع الطاهر منهم؟ ولئن كان قانون الدولة الحصيف قد احتوى هؤلاء رحمة بهم، إلا أن ذلك ليس كل شيء، فإن شعورهم بالنقص والضياع لا يعوضه شيء، ولسان حالهم قبل لسان مقالهم لا يفتر عن الدعاء على من جنى عليهم، بل من السب والتجديع لهم، ولا ريب أن دعاءهم لا يخيب؛ لأنهم مظلومون فينتصر لهم باريهم سبحانه ويقول لهم «وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»، فلا يموت ذلك الجاني إلا على أسوأ الأحوال وأبأس الأقوال، ناهيك عن سيئ النكال الذي ينتظره يوم المآل، جزاء وفاقاً على جنايته التي تنوء بحملها الجبال. ولرب قائل يقول: هذه العوالم الأخرى كثير من أبنائها هم من هذا النوع فلا يطرأ لهم هم ولا حزن، فلم هؤلاء لا يكونون كذلك؟فنقول: هذا قياس مع الفارق فلا يصح، فأولئك لا يتمايزون بدين ولا قيم، فهم كما أرادوا لأنفسهم: يأكلون ويتمتعون ويلهيهم الأمل فسوف يعلمون، أما نحن فأمة دين وأخلاق وقيم، نرى أن الإساءة عار، وفي الآخرة شنار، ونرى أن القيم فضائل، وفي الآخرة منازل، ونرى أن حرمة العرض كحرمة الدم والمال والنفس، وفوق ذلك كله نرى أن الله علينا رقيب ولأعمالنا شهيد، فلا نقبل مثل هذه الفواحش، ولا كرامة لمتهتك أو متفسخ، فلابد إذاً من إنكار مثل هذه المظاهر في الباطن والظاهر.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


❊كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

تويتر