من المجالس

عادل محمد الراشد

قبل زمان التخطيط العمراني، والهندسة المدنية، والمدن الحديثة، كان للأولاد ملاعبهم، والبنات زواياهن، والكبار مجالسهم وأماكن لقياهم. كان للحي شكل رسمت معالمه الفطرة، وسطرت خطوطه البيئة، ووزعت جنباته الحاجة. حاجة الناس في ممارسة حياتهم وقضاء حاجاتهم، وبناء علاقاتهم، وحفظ موروثاتهم. وكان للشكل عناصره، احتلت «البراحة» أو الساحة مركزه، والمسجد محوره، والدكان نافذته، والمقهى الشعبي رئته، والمجالس منبرة. فكان لكل شيء اسمه، ولكل اسم مكانه، ولكل مكان معناه. لذلك كانت الحياة منسجمة في ما بين عناصرها.. الإنسان، والمكان من دون جور من الزمان.

الآن، وفي زمن التخطيط والهندسة والمدائن المعلقة تاهت العناصر، وتداخلت الشواهد، فحل الإسمنت محل «السدرة»، وهيمن الأسفلت على روح «البراحة»، وتوارت مع هذه الروح الجديدة مشاهد الأطفال وهم يتقلبون في نعيم الهدوء الذي كان يسكن الساحة، والأمان الذي كان يغلف «السكيك» فما عادت هناك ملاعب يتقاسمها الأولاد مع البنات في براءة تحمل عنوان ذلك الوطر الجميل، وما عادت النساء تطمئن إلى أن المارين والجالسين والمتسوقين والبائعين من الرجال كلهم من الأرحام الغيورين والجيران الحريصين. صار على الصغير أن يحوّل صالة بيته الحديث إلى استاد صغير بلا شباك تمنع عن أثاثه ومعلقاته لكمات الكرة الطائشة في كل الاتجاهات، أو أن يختزل كل خياله، ويختصر بصره وبصيرته في حدود شاشة اللعبة الإلكترونية الى أن تكفيه مساحة متر مربع ليكون مستحوذاً على عالمها. ويحيط نفسه بعلب الحلوى والأطعمة المصنعة والمشروبات الغازية، ليبلغ، جسداً وروحاً، الشيخوخة قبل أن يفارق طفولته.

لا ملاعب، ولا حدائق، ولا ساحات، ولا مجالس، ولا أمان، ولا انسجام، هي عناوين أحيائنا الحديثة المطرزة بأشكال هندسية متنافرة الخطوط، وإن تجملت بالألوان والتصاميم الحديثة المبهرة التي أصبحت مستوردة كما هو حال كل تفاصيل حياتنا الأخرى.

 

adel.m.alrashed@gmail.com

تويتر