«الشفافية».. العربية

باسل رفايعة

نحن أمة «شفافة» جداً. وفي الخطاب الرسمي العربي، يجد المسؤولون هذه الكلمة فاتنة وساحرة وذات جرس موسيقي، ولذلك فهم يقبلون عليها بكثرة وتكرار، وهم يقصدون طبعاً نقيضها التام، أي التعتيم والحجب والغياب، وإلا لا مبرر لشيوعها في حياتنا العربية على هذا النحو الذي باتت فيه لا تعني شيئاً، أو كأن المقصود منها ألا يعرف الناس شيئاً عنها سوى إيقاعها، وما يتبقى فهي مفردة فارغة تماماً من معناها في العالم العربي، شأنها شأن مفردات أخرى، كالديمقراطية، وحرية الصحافة، وحقوق المرأة، ومحاربة الفساد.

الصحافة العربية استعذبت الكلمة أيضاً، ووجدت أن لها جاذبية خاصة، فأدخلتها إلى قاموس العناوين الخاصة بالمسؤولين في سياق التعظيم والتبجيل لإنجازاتهم، وحرصهم على المكاشفة والصراحة وحق الناس في المعرفة، وليس مطلوباً من أي مسؤول أن يثبت صدق شفافيته، لأن أحداً لا يجرؤ على سؤاله في القضايا الكبرى، ليختبر مدى شفافيته، فليس عليه سوى أن يُطلق الكلمة، فيحظى بالتصفيق.

فنحن في العالم العربي نجري «انتخابات شفافة» دائماً، ومحاسبة الفاسدين لدينا تتم «بكل شفافية» مادامت المسألة متعلقة باللغة، ولا تكلف شيئاً. ليس لدينا قانون عربي واحد يلزم المسؤولين الكشف عن المعلومات، ولا تستطيع صحيفة، أو شخص، أو مركز معلومات عربي أن يقاضي وزارة أو مسؤولاً بتهمة حجب المعلومات، ويجبره على الكشف عنها أو إتاحة جزء منها أمام الرأي العام، ولذلك نحن أمة لا نعرف شيئاً عن واقعنا سوى ما يتيحه الآخرون لنا.

مسؤول عربي بارز انتقد قبل فترة الإعلام الرسمي في بلاده، وقال إنه إذا أراد أن يعرف شيئاً عن الحياة الاجتماعية أو السياسية في بلده فإنه يلجأ إلى وسائل الإعلام الأجنبية، مثل «سي إن إن». المسؤول نفسه يؤيد التشدد في قوانين الطباعة والنشر، ويسهب في التنظير عن الشفافية، ويحلو له هذا الفصام، فيضرب الكرة بقوة من ملعبه إلى ملعب الإعلام غير «الشفاف».

نحن نزج بالمفاهيم والمصطلحات لنعني عكسها تماماً، فأنت تستطيع ألا تذكر كلمة الشفافية أبداً، ولكن تمارس كل ما تعنيه، وتتيح قنوات للمعرفة، ولا تعتبر المعلومات المتعلقة بحياة الناس أسراراً كبيرة. وتستطيع أن تكون نزيهاً بتشريعات وسلوك مباشر، من دون أن تصر على استخدام كلمة «النزاهة» بمناسبة، ومن دون مناسبة، لمجرد أن الكلمة تعجبك لفظاً.

هذا نمط آخر من أنماط الاستهلاك العربي، عبر تسليع اللغة، وتعبئتها في مفردات خاصة، ظنّاً أن هناك من يشتريها عملياً. فحتى يصدق الناس موضة «الشفافية العربية» فلا أقلّ من إلغاء المحظورات، أو التخفيف من قائمتها الطويلة، ولا أقل من تقليل أعداد الخطوط الحُمر التي يُمنع الاقتراب منها، ولا أقلّ من إلغاء الرقابة على حركة الطباعة والنشر، وذلك من «أضعف الإيمان»، ولا يمثل رفع سقف المطالبات بالحقوق، وإنما من أجل أن يكون لمفردات كبيرة مثل «الشفافية» حدّ أدنى من الصدقية، وإلا فهي كلمة جميلة في لغتنا الجميلة.. وحسب.

 

baselraf@gmail.com

تويتر