اختراع الخرافة
يسمي الجاحظ كتاباً من كتبه «فضل السودان على البيضان»، محاولاً إثبات قدراته الكتابية بمخالفة المفهوم السائد في وقته، ويسلك بذلك طرقاً عدة، مستشهداً بالمنطق والتاريخ والأديان، ليصل إلى نتيجة أصبحت من بدهيات عصرنا، ما يفعله الجاحظ يشبه من وجوه عدة، مع مراعاة الفارق كما يقال، ما قام به الغربيون في بدايات عصر نهضتهم من اختراع للتاريخ بشكل يناسب انطلاقتهم، ويروّج لسيطرتهم على العالم، وهذا السرد «الوطني» للتاريخ هو ما ينتقده إداورد سعيد «الهوية القومية متورطة باستمرار في السرد؛ سرد ماضي الأمة، وسرد أجدادها المؤسّسين، وسرد الوثائق والوقائع الأصلية وهو ما يجعل وجود الهوية مرهوناً بوجود سردها الثقافي الخاص»، والمشكلة تتضح أكثر عندما تصبح كتابة التاريخ بهذا الشكل مدخلاً للاحتلال والقتل والعنف وممارسة التفوق، استناداً إلى تاريخ مخترع بمجمله، وهم بذلك يستخدمون المعرفة كسلطة ضد الإنسان، تماماً كما يمكن استخدامها ضد الطبيعة، ويمارسون العنف باسم تلك السلطة، وهذا ما فعله الغزاة الأوروبيون الأوائل لأميركا، فهم تجاهلوا وجود حضارات كبيرة، ومنجزات معمارية مهمة، وثقافة متسقة مع ذاتها، وقادرة على تقديم تفسيرها الخاص للحياة والموت، وروّجوا لفكرة بدائية الهندي الأحمر، ورفضه كل محاولات تحديثه.
وبالطريقة نفسها، قام الغرب بإنكار الأصول الشرقية للحضارة الإغريقية، فالنظرة إلى اليونان القديمة كانت تتصف حينها بالرومانسية القصوى، حتى إن الفكر الأوروبي الحديث برمته حُوّر ليتماهى في الحضارة الإغريقية التي أصبحت مهرباً إلحاديا، على الأقل في الجانب الفلسفي، من الديانة المسيحية، وبذلك، يتم تجاهل دلالة واقعة مهمة في التراث المسيحي، عندما تنبأ ثلاثة من المجوس الشرقيين بولادة المسيح رمز الهوية الغربية، وكأن ذاك رمزاً لانتقال الإنسان بين ضفتي النهر الواحد، ويتم تجاهل أن معظم المفردات التي تنتمي إلى طائفة «المفردات الأساسية»، مثل الأرض، السماء، الموت، الحياة... إلخ، لم تكن من أصل هندو أوروبي، كما أن مفردات تعتبر مركزية في الثقافة، مثل الألوان، والمفردات الخاصة بأمور الزراعة هي في معظمها ليست من أصل هندو أوروبي، لأن مصدرها كان حضارات الخصب الكبيرة في العراق ومصر وسورية.
وحتى في السينما، تمت معاملة الجذور اليونانية كخلاصة صافية وحالمة جداَ، فمعظم الأفلام التي تناولت قصة كليوباترا مثلاَ قدمتها كراقصة شرقية مبتذلة، وليس كملكة قوية رغبت في عزل بلادها عن التأثيرات الأجنبية. وهذا القفز الأسطوري فوق حقائق التاريخ، يمكن ملاحظة نتائجه المتوحشة عندما نعرف مدى تزوير الصهيونية للتاريخ، ومدى اختراعهم ما يسمى أرض إسرائيل. وهذا التزوير بدأ منذ حملة نابليون الفاشلة ضد عكا، عندما بدأ علماء الآثار ينقبون في فلسطين، ليجدوا على الأرض ما يذكره «الكتاب المقدس»، متناسين كل البحوث التاريخية التي تشكك في معلومات «الكتاب المقدس». ومتناسين البحوث التي ترجع أصول الديانة اليهودية ذاتها إلى جذور فرعونية قديمة، وقافزين بكل خفة فوق حقيقة وجود أجناس وشعوب وحضارات كثيرة فوق الأرض المقدسة، هكذا، كلما بدا أن العالم تحرر من أوهامه وخرافاته، تصدرت خرافات السلطة وأكاذيب المعرفة أخبار منطقتنا، ليزيد العنف والموت والظلم.