الجسد ناطقاً

ياسر الأحمد

يشكل «البانتوميم»، أو المسرح الصامت، شكلاً مهماً من أشكال التعبير المسرحي المتعددة، لكنه ينفرد عنها بقربه الشديد من «التجريد الفلسفي»، باعتباره يقدم لنا الرسالة خالية من الحوار، وهو أهم المؤثرات التي يستخدمها العمل المسرحي عادة. فالبانتوميم خطاب مسرحي يتجاوز ثنائية «الصمت والصوت»، مختاراً ثنائية أخرى، هي «الصمت والحركة». فالممثل هنا هو جوهر العمل وقدرته على تفجير طاقاته، وتحكّمه بتعابير جسده وتعابير وجهه هي الوسيلة ليوصل فكرة هذا النمط المسرحي إلى الجمهور. وبذلك، يقفز المسرح أسوار اللغات المتباينة،ليخلق نوعاً من التواصل بالرمز، وعبر استعمال الجسد. فجسد الممثل هنا مفعمٌ بدلالات ساكنة وأخرى متحركة. والفضاء الذي يوجد بين الممثل وجمهوره هو فضاء آني تخلقه قدرة الممثل وبراعته.

لهذا النمط من التعبير جذور غائرة في المخيّلة الإنسانية، فالإنسان البدائي لجأ إلى إشارات حركية ليعبر عن نفسه. والرقصات التعبيرية في المعابد كانت من أهم الطقوس الدينية التي تسهم في التواصل مع الآلهة، بحسب المعتقدات الأولى. كما أن ردّات الفعل الأولى لدى الإنسان كانت ردات فعل حركية، فالحركة هي إشارة وجود بإزاء ما قد يحدث لنا. وبالتكرار، تتحول الحركة إلى إيقاع، ليخلق الرقص والموسيقى في ما بعد. والبانتوميم بعودته إلى الحركة، مضافاً لها الديكور أحياناً، يعود بالمسرح إلى طقوسه التأسيسية الدينية.

بيد أن الاستسهال ليس صديقاً لممثلي البانتوميم، فالحفاظ على التوازن الفيزيائي/الفكري ليس عملا بسيطا، ويحتاج ممارسه إلى تلقّي تدريبات احترافية عالية، ليضمن وصول رسائله إلى المشاهدين، وهي رسائل لن تكون متماثلة لدى مستقبليها. فالحركة الإيمائية تسمح ببروز تأويلات متعددة، وهذه ميزة أخرى لصالح البانتوميم، فلغة الحوار قد تقع في مطب اللغة القاتل، عندما تصير طريقة لسوء الفهم بدلاً من الفهم، كما يحدث عند كل استخدام للغة.

وللبانتوميم شكل آخر شديد الجمال، على الرغم من «استخدامه الوظيفي»، ولا عجب، فالإيماء وظيفة بدائية ونفعية للإنسان، فبوساطته يمكن تدريب الأطفال الصم والبكم، على التواصل مع مجتمعهم. باستخدام المفاهيم التي حددها علماء النفس «استخدام الحواس، حركة الجسم، التخيل، التقمص والتمثيل للأدوار، التركيز والاسترخاء الجسدي»،حتى أن الصم أسسوا مسرحاً خاصاً بهم في «نيويورك» للتمثيل الصامت.

وعجبنا سيزول، إذا لاحظنا أننا نستخدم في حياتنا اليومية التمثيل بالإيماء، عندما نردّ سلاماً مثلاً، أو عندما نقطب حاجبينا دهشة أو استنكاراً. فمفردة البانتوميم تعني في الترجمة الحرفية «لغة الحركة»، أو التواصل بالحركة، وهذا ما نفعله يومياً عشرات المرات. لكن، من يكتب النص الصامت؟ وكيف يكتبه؟ وهل يعتمد الأداء على الارتجال، أم أن الخط الأساسي للعرض يكون جاهزاً مسبقاً، وما على الممثل سوى أن يجتهد في عرض الحركة. أعرف أن صموئيل بيكيت كتب مسرحيته «فصل بلا كلمات»، وهي لا تتضمن حواراً، وتعتمد على الحركة والإيماء. لكني لا أملك أجوبة دقيقة حول تقنيات هذا العمل وكيفية التحضيرات له. ولذا، علي التزام الصمت منتظراً أن يجود عليّ شارح بفك المرموز.

 

ytah76@hotmail.com

تويتر