المخلوقات الوهمية

ياسر الأحمد

«كل المسوخ ضرورية وليست عابرة للوجود» بورخس في أحد نصوصه  يزعم بورخس ـ كاذباً ـ أنه وجد تصنيفاً في موسوعة صينية قديمة يقول إن الحيوانات تنقسم كالتالي: حيوانات يملكها الإمبراطور، وأخرى محنطة، وخنازير رضيعة، وجنيات البحر، وخرافية، وكلاب طليقة، وما يدخل في هذا التصنيف، والتي تهيج كالمجانين، وحيوانات لا تحصى، وأخرى مرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل، وإلى آخره، والتي كسرت الجرة لتوّها، والتي تبدو من بعيد كالذباب. وهذا التصنيف دفع ميشيل فوكو للقول إن باستطاعة العقل أن يخترع تصنيفاً خالياً من أي سياق مفهوم لدينا، ثم يستطيع اعتماد هذا التصنيف وتسويقه. لكن بورخس كان كاذباً في تصنيفه، وخياله فقط هو الذي اخترع ذلك التصنيف للحيوانات، بحيث نستطيع أن نضحك كما نشاء ونحن نفكر في حيوانات تبدو من بعيد كالذباب.

لكن الأمر ليس نتيجة للسخرية في مطلق الأحوال، فالحكمة والرغبة في الانتقاد تدفع بنا لاختراع كائنات خرافية نضفي عليها صفاتنا الخاصة. كما فعل أبوليوس في روايته تحولات الحمار الذهبي حين مسخ بطل روايته إلى حمار ثم جعله يطوف في البلاد، ويقدم الحكمة والنصيحة للعشاق والفقراء، وكأن الكاتب يختفي وراء تصرفات هذا المخلوق الوهمي ليقدم صورته هو.

وكافكا استخدم هذه الطريقة في روايته الشهيرة «المسخ»؛ فالبطل يستيقظ من نومه ذات صباح ليجد نفسه صرصاراً مستلقياً على سريره، لتكون نهايته الموت دهساً تحت أقدام عائلته منتقداً حضارته الغربية بذلك.

ولكن «الانمساخ» لم يكن دائماً بهذه الصورة المنتقدة، فالسينما الحديثة قدمت لنا مسخاً لطيفاً يحب ويعشق ويمتلك مشاعر فياضة ورقيقة. وكأن محاولة أنسنة المسخ هي طريقة هذه الحضارة في استيعاب طفراتها ومشكلاتها. وكذلك قدمت السينما المخلوقات الفضائية كحل وسط بين الإنسان والمسخ، فهي شديدة الذكاء والتقدم، وشديدة القبح ومختلفة الشكل عنا كبشر، وكأن الانمساخ أصبح نتيجة متوقعة لجنون العلم والطفرات الجينية.

أما لدى الحضارات القديمة فيمكن أن يكون اختلاق بعض الكائنات ذا دلالة طقسية دينية، فالمخلوقات الغرائبية هي بشكل ما صلة وصل بين البشر والآلهة، أوهي الآلهة ذاتها، ورسوم هذه المخلوقات منتشرة في الأقنعة السحرية، وعلى جدران الكنائس. والمخلوقات الوهمية تحتل جانباً مهماً من التراث المكتوب أيضاً فقديماً كتب أوفيد «مسخ الكائنات»، وفي تراثنا العربي كان كتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني الذي أورد قصصاً ومخلوقات فائقة الطرافة. ووضع تقسيماً للمخلوقات يقول فيه إن هناك ما لا نعرف أصله ولا يمكننا النظر فيه كالعنقاء، وهناك ما نعرف جملتها ولا نعرف تفصيلها كالملائكة والعرش. ومن هذا الكتاب استفاد بورخس عندما سطر كتابه «المخلوقات الوهمية» الذي يدعو في مقدمته بكل رصانة علمية قارئه في أي مكان أن يراسله، ويبعث له بأوصاف وأنماط السلوك الحقيقي للمسوخ المحلية المرموقة.

ولعل امبرتو ايكو استجاب لدعوته عندما كتب روايته الممتعة «باودلينو» التي يتحدث فيها عن مملكة تكتظ بالمخلوقات المدهشة والخرافية، وحيث نجد المجتمع النسوي خالياً من أي رجل.

 

ytah76@hotmail.com

تويتر