هواء ساكن

يوسف ضمرة

من المشكلات الأساسية التي تواجه الحركة الإبداعية في الوطن العربي، غياب العقل النقدي الذاتي. وهذه المشكلة هي التي تقود إلى غياب منظومة الحوار بين الذات والذات من جهة، والذات والآخر من جهة ثانية، ومن ثم تقود إلى غياب الحوار بين الأنا والعالم الكلي.. أي أنها تقود إلى الانغلاق على الذات، وإلى تقوقعها وتضخمها، بحيث تختزل هي العالم والآخر والذات الموضوعية!

إن حركة تفتقر إلى منظومة نقدية جوهرية، هي بالضرورة حركة تفتقر إلى مقومات النموّ والثراء والتطور، وهي حركة توحي للمبدع المفرد أنه في غنى عن الآخر والكون بمفرداته كلها. وحين أتحدث عن النقد هنا، فإنني أتطرق إلى المفهوم على إطلاقه.. أي أنني أشير إلى سمة بارزة في العقل العربي، بصفته عقلا غير نقدي!

ولكن تجليات هذا العقل في الإبداع هي التي تهمّنا في هذه الكتابة. فكيف نصبح نقديين بالمعنى الحقيقي والجوهري والعميق؟

أعتقد أن المسألة تبدأ من الذات المبدعة أولا.

فالمبدع مطالب بتوفير مسافة نقدية بينه وبين ذاته قبل أي متلق آخر. هذه المسافة نقدية لأنه ينبغي لها أن تكون موزونة ودقيقة الأبعاد.. لا طويلة أكثر مما ينبغي لها أن تكون، ولا قصيرة. والذي يحدد هذه المسافة هو المبدع ذاته استنادا إلى صدقه مع نفسه في المقام الأول.. الصدق الذي لا يسمح للخداع بالحضور أو التأثير في المسافة، وفي ما ينتج عنها من تقويم لاحق!

ثم نأتي إلى المتلقي.. إلى تصور المبدع للمتلقي، وللزاوية التي يوفرها له المبدع، بحيث تكون هذه الزاوية هي الملائمة تماما للدخول إلى هذا العالم الإبداعي. وسوف أحاول تقريب الصورة من خلال المثال التالي.. فثمة لوحة تشكيلية تصور مسدسا يطلق النار، وإلى جواره ألصق الفنان مرآة أصيبت بالرصاصة، وحين يقف المشاهد أمام اللوحة سوف يرى الرصاصة تخترق جسده!

لقد أنجز الفنان لوحته وهو يعرف جيدا أين سيقف المشاهد لكي تخترق الرصاصة جسده.. أي أن العمل الفني هو الذي يقود المتلقي قبل أي شيء آخر، وهي القيادة الأولية التي تشكل المدخل الرئيس للعمل، قبل أن يوغل المتلقي في عالم التأويل الممتع والمملوء بالمعرفة والمتعة الجمالية.

ما فعله الفنان في لوحته، كان يستند إلى عقل نقدي إضافة إلى بعد جمالي بالضرورة. فلو لم تكن المقاسات دقيقة، ولو لم تكن زاوية الرؤية صحيحة ودقيقة أيضا، لما اخترقت الرصاصة جسد المتلقي!

المشكلة عند المبدع العربي، هي أنه يهمل هذا البعد النقدي الذاتي، وهو ما لن يسمح له فيما بعد بتقبل التقويم النقدي من قبل المتلقي الذي يمتلك من الحساسية الفنية أكثر بكثير مما يظن كثير من المبدعين.

هل يفسر مثل هذا الكلام، كل هذا الهواء الساكن والمثقل بالرطوبة الفنية؟

إن نظرة سريعة على المشهد الثقافي العربي، توحي بسكونية مريبة. وهي سكونية قد يظن البعض أنها نتاج تكاسل من هنا أو هناك، بينما هي في الحقيقة تجل لهذا العقل غير النقدي، الذي يرفض تقبل الآخر، لأنه يرفض مشاركة ذاته من قبل في الرؤية النقدية.

 

Damra1953@yahoo.com

تويتر