شفافية إجبارية

باسل رفايعة

من إيجابيات الأزمة المالية التي تعصف بالعالم، أنها فرضت الشفافية لأول مرة على دول العالم الثالث، التي تضع القيود تلو القيود على حرية النشر وتداول المعلومات، وتتفنن في سنّ القوانين البدائية لضبط إيقاع عالم رقمي، تسيطر التقنية على مناهجه وأدواته ووسائله.

غير أنها شفافية من نوع بدائي أيضاً، أي النوع الذي يرفع شعار «الأزمة العامة، ولا حول ولا قوة ...» وليست تلك الشفافية التي تتعاطى مع الأسباب الذاتية المنتجة للأزمة، من دون الاتكاء على أنها «عامة وكونية». شفافية تهرب من الداخل إلى الخارج، ومن الأخطاء الذاتية إلى انعكاسات البعيد على القريب.

لكن لا بأس، فنصف الشفافية خير من انعدامها في الشهور الأولى من الأزمة، ومن الأفضل والمجدي أن تبدأ دول العالم الثالث، وخصوصاً العربية منها، في المسارعة إلى شفافية كاملة، بدلاً من انتظار الأحداث والتطورات، والتعامل معها بردود فعل قصيرة الأمد والنظر والرؤية.

الدولة، أيّ دولة في العالم الثالث، تتعرض لخسارات يومية مباشرة، ولا يفيد تقليل الضرر في شيء، والقطاع الخاص وشركاته يتعرض إلى ضربات متتالية، فيسرح آلاف الموظفين، وسوق العمل يخيم عليها الحذر والجمود، وتتضاءل فيها الفرص، ومن يراقب تطور هذا الحدث في وسائل الإعلام يكتشف سوء الأمر، إلى الحد الذي يجعل الحديث عن السوداوية والتبشير بالأزمة مجرد كلام للتبجح في الإعلام الرسمي، وأدواته التي تتغاضى عن ما يحدث فعلاً في الأسواق، وفي البيوت، وفي المقاهي، وفي المباني الفخمة والضخمة للشركات التي أصبحت مفتوحة لأعداد قليلة من الموظفين، بعدما غادرها الآلاف إلى البطالة والأذى.

على الدول ألا تتعامل مع الأزمة بوصفها عاراً يجب التعتيم عليه، وتجنب الخوض في تفاصيله، فهذا لا يعفيها من مسؤولياتها الاجتماعية، ولا يقدم شيئاً في سبيل الحلول، فضلاً عن أنه يُراكم المعضلات، إلى الحد الذي يستحيل معه الانفراج.

على الدول التي شجّعت ثقافة الاستهلاك أن تواجه استحقاقاتها الآن بثقافة بديلة، تحض على استهلاك متكيف، يركز على أولويات الإنفاق والاحتياجات، فالأسواق لا تنمو بالبذخ والتوسع في رفاه فئات اجتماعية على حساب أخرى، والإصرار على أن يتحمل المجتمع وقواه التشغيلية الجزء الأكبر من تبعات الأزمة العالمية ينتج مجتمعاً تتفشى فيه الجريمة والفساد القيمي في أكثر صوره بشاعة، ولا أدلّ على ذلك من تجارب الماضي المستمر في دول عربية عديدة، تئن تحت وطأة الرشوة والفساد الحكومي في مؤسسات القطاع العام، وفي المعابر الحدودية، بحيث يُمكن بمبالغ صغيرة استصدار شهادة جامعية لأشخاص أميين!

الأكثر إلحاحاً أيضاً أن تتبنى الدول على عجل برامج اقتصادية لضبط الإنفاقات الحكومية، في موازاة برامج أخرى تمتص الأكلاف الاجتماعية للأزمة المالية العالمية، من أجل حماية الفئات الفقيرة من التسول والمجاعات والجريمة، ومن أجل ألا تفقد الطبقة الوسطى في العالم آخر شروطها وملامحها، وتتحول من فئة لذوي الدخول المحدودة إلى شريحة من فقراء مُعدَمين، فتفقد الدول بذلك دعامتها الاجتماعية الرئيسة!

فالدول تفقد أول مبررات وجودها حين يتداعى المجتمع، وتتآكل مقوماته وهياكله الإنسانية. والمطلوب الآن أن تتحرك دول العالم الفقير، وتحافظ على قواعدها من التصدع والانهيار.

ورب ضارة نافعة.

baselraf@gmail.com

تويتر