تثقيف المحرقة

خليل قنديل

استطاعت الصهيونية العالمية ومنذ قيامها، أن تتكئْ على العمل الدؤوب في تحويل المحرقة التي تعرض له اليهود إبان الحكم النازي والهتلري، إلى ذاكرة مقدسة، وقد جاء هذا التثقيف للمحرقة التي تسمى «الهولوكوست» بناء على قوى إنهاضية جبارة قام بها اليهود عبر كل ما يملكون من لوبيات عالمية وقوى صيرفة ومؤسسات وجمعيات ظلت تعمل ليل نهار؛ كي تؤسطر هذه الحادثة وتأخذها من عادية التاريخ البشري، الذي عاش عبر تاريخه الطويل العديد من المجازر والمذابح الجماعية كحالة منفردة ومتميزة لم يسبق لها مثيل.

والغريب أنه وعلـى الرغم من أن الصور التوثيقية الخاصة بالمحرقة اليهودية هي بالابيض والاسود الباهت والرث، ويمكن التشكيك في أصله، إلا أن هذه الصور المرفقة مع صارت ثيمة ابدية لعرضها كلما أرادت الصهيونية العالمية أن تضيء على حادثة المحرقة. وقد بلغ الكد الصهيوني حول محرقة اليهود التي كان قطافها الأول احتلال أرض اللبن والعسل «فلسطين»، إلى درجة إصدار القوانين الدولية التي تعمل على تحريم تكذيب هذه المحرقة وأهوالها، واتهام كل من يُشكك فيها بعدائه للسامية، والعمل على معاقبته ومحاكمته.

وجميعنا يذكر الاستنفار العالمي الذي قام ولم يقعد عشية تكذيب المفكر الفرنسي روجيه جارودي لفكرة «الهولوكوست»، في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وكيف تمت معاقبته ومساءلته عن هذا الكفر بالمحرقة، وتعرضه للحكم بدفع غرامة مقدارها 20 الف دولار. وقبل سنوات طالبت بعض الجهات الألمانية والغربية الموالية لإسرائيل بسحب جائزة نوبل للآداب من صاحبها الروائي الألماني «غونتر غراس» لمجرد أنه عرج في حديث له عن سيرته الذاتية خدمته بالكشافة النازية، وذهبت هذه الجهات إلى اتهامه باللاسامية. ومن يرقب زعماء العالم الذين يزورون إسرائيل، لا بد وأن يلحظ عمل قادة إسرائيل على إدراج زيارة نصب المحرقة المقام في القدس ضمن أجندة زيارة رؤساء الدول. كل هذه المقدمة المطولة عن المحرقة اليهودية كان لا بد منها، كي نتحدث عن المحرقة الطازجة التي ارتكبها اليهود في هجومهم الدموي على غزة وسكانها العُزل. ذلك أن مثل هذا الحديث الذي اكتظت بمشهده الدموي الميديا العالمية بصحفها ومجلاتها وفضائياتها يستحق منّا وقفة تأملية. وقفة تستدعي نهوضنا الحضاري في العمل على تثقيف هذه المحرقة وتعميمها للعالم سيما أن ما من عاصمة عالمية إلا واكتظت بالمظاهرات المناوئة لهذه المحرقة الهمجية.

إن محرقة ومجزرة غزة حدثت في زمن ثقافة الصورة التي تستطيع من خلالها منظماتنا المدنية والحقوقية ومحافلنا السياسية العربية وجمعياتنا الموزعة على جغرافية العالم، إن تعمق وعي الآخر الغربي بهول المأساة التي تعرض لها أهل غزة. نعم تستطيع القوى العربية المدينية المنظمة أن تذهب بمذبحة غزة إلى كل الجهات العدلية الدولية وإلى كل المنظمات المتحالفة معها لتجريم مرتكبي هذه المجزرة ومحاكمتهم.

إن تثقيف المحرقة الغزيّة وإشهارها عالمياً ضرورة عربية ملحة توجب على كل واحد منا أن يعمل على تعميق مداها الإنساني عند العالم كي تصل إلى حد الحداد العالمي السنوي على أبرياء كل ذنبهم أنهم ولدوا وعاشوا في غزة. هذه هي فرصتنا في زمن ثقافة الصورة أن نحصل على عدالة دولية جراء أجندة المجازر التي تتراكم في ذاكرتنا، تلك الذاكرة التي اكتفت منذ أمد طويل بالاكتفاء بأرشفة المجازر.


khaleilq@yahoo.com

تويتر