«غزة» مربعنا الأول

خليل قنديل

ها هي غزة تضيء عتمة أيامنا العربية بالقنابل الفسفورية الحارقة، وبالقذائف وركام البيوت البسيطة، وتمزق العائلات واطفالها الى أشلاء تتوزع بين البيوت الواقعة على اصحابها وزعيق سيارات الاسعاف، والأب الذي فارق عائلة كاملة وبقي وحيداً ينحب امام الفضائيات. ها هي غزة المدينة التي ظلت نائية وسط جغرافيا عربية منتفخة الأوداج، وحملت اسم «القطاع» على اعتبار انها احد «الدمامل» الجغرافية وهي تارة تتبع فلسطين وتارة تتبع مصر، وفي تارة ثالثة تتبع نفسها وتنغلق على مساحاتها واشجارها وكرومها وبحرها لتبدو وكأنها نبت شيطاني تمنى عدوها ذات مرة أن يبتلعها بحرها.

ها هي غزة تختصر فلسطين في مساحتها المجرّحة بالقذائف، وبسمائها التي لم تعد زرقاء بسبب اكتظاظ طائرات العدو وبعض الطيور الرمادية المرتجفة بأجنحتها، وبالفقراء الذين يجالسونها صباح مساء بالموت والشهادة.

ها هي غزة بالزلزال الاحتلالي الذي حدث لها من قتل ودمار واختراقات لابسط الاتفاقات الدولية والانسانية تبدو قرباناً لحضارة شقراء ظلّ ديدنها تصفية الروح الجامحة والمقاومة عند بسطاء الناس. ها هي غزة بمواجهتها لأعتى عدوان همجي تعيدنا الى فصولنا المدرسية كي نتصفح من جديد القصائد الطنانة الرنانة والاناشيد التي لم تغادر ساحة المدرسة والهتافات التي ظلت حبيسة الفصول.

ها هي غزة وهي تقبض على جمر الصمود تُجبرنا على إعادة النظر بالكياسة المُزمنة للسياسة العربية، وتلك الطأطأة الموجعة للسياسي العربي أمام الخواجا الدولي، والى إعادة النظر في هذه الحمى الموجعة التي تتخذ العديد من المسميات الحربائيةمثل: محادثات سلام، تطبيع، شرق أوسط جديد، وغيرها.

ها هي غزة المهدور دمها في وضح النهار الدولي تزلزل الجماهير العربية والاسلامية، تعيد لنا طعم الانتماء للوطن وللجذر الاول بعيداً عن الانشاء الذي ظلّ حبيس المؤتمرات والقاعات. وتمنحها طاقة الخروج العفوي الى الشوارع وحمل اليافطات والتعبير عن وحدة عميقة ظن الأعداء انها كفنت وماتت منذ أمد بعيد. ها هي غزة التي التي تحمل موتاها من الاطفال الذين مازالوا يتدربون على النطق، وهي ترينا نعاسهم اللذيذ في الشهادة المبكرة عبر الصحف والفضائيات تعيدنا الى كتابتنا الابداعية الاولى التي هجرناها منذ ان توزعت الثورة الفلسطينية في المنافي والمصافحات مع العدو الاصيل لهذه الكتابة، وذهبنا الى تلك الكتابة المهجنة التي تحاول أن تنطق الاشياء وتسميها ابداعياً بلكنة غريبة ومُقترحة.

ها هي غزة بجرحها اليومي المفتوح على الشهادة والدمار، تعيدنا الى مربعنا الكتابي الاول. تعيدنا الى البدايات التي كان يتألق فيها النزق المقاوم للشاعر محمود درويش، والى ذاك العناد المقاوم الذي كان يتحلى به غسان كنفاني، والى تلك السخرية الحضارية المقاومة والجارحة التي كان يبثها اميل حبيبي في رواياته، والى حميمية معين بسيسو، وعناد اللوحة المشاغبة والمناكفة لناجي العلي.

ها هي غزة بصبرها وصمودها المقاوم تحذف عن رؤوسنا كل السماكات الحمقاء التي كانت تجعلنا نذهب للكتابة في مناطق تجريدية مطلسمة، وتجعلنا نسحق محليتنا الجميلة ونذهب نحو عولمة متزلزلة ورجراجة، ونعود الى التفكير جدياً بالكتابة عن اناسنا وامكنتنا البسيطة كي نؤثثها بالعمق الذي يليق بها. جرح غزة الذي ينزف بالشهداء يومياً سيكون درساً قاسياً لنا في اعادة النظر بالكتابة التي كانت تبدو وكأنها نزهة مقترحة، والبدء بكتابة أخرى ستكون مختلفة بالتأكيد.

khaleilq@yahoo.com

تويتر