الغزل من ضفّة أخرى
حين يريد الإنسان التعـــبير بلغته فإنه لن يستطيع تجاوز ما تسمح به اللغة نفسها، فهو وإن كان يملك حرية الاختيار بين طرق التعبير فهو لن يفلت من رقابة المحتوى الثقافي للغة، ولن ينجح دائماً في كسر المحظورات والقفز فوق الممنوعات، ولذلك فغالباً ما يتم التعبير بأدوات المجتمع وغالباً ما نحافظ على بنية اللغة حيث نعتقد أننا سنحطم هذه البنية، ويمكننا أخذ شاعر مهم كنزار قباني مثالاً مفيداً، فعلى الرغم من أن هذا الشاعر يقدم بصفته نصير المرأة فإن تحليل مفرداته وطرق استخدامه للغة تصل بنا إلى أنه ساهم في تسليع المرأة، وزاد من حشرها في قالب مسبق الصنع بدلاً من كسر الصورة النمطية السائدة عن المرأة. وهذا متوقع كما يقول علماء اللغويات «فاللغة تنقل إلى الفرد نسقاً جاهزاً من المفاهيم والتصنيفات والعلاقات».
وللجاحظ مقولة مهمة حول سطوة اللغة ومدى انتهاكها والخوف منها في وقت واحد، فهو يقول «من حفظ لسانه وفرجه أمن شرور الزمان» فاللسان أو اللغة تتقاطع مع الفعل الجنسي في زاوية واحدة وهي القدرة على تحطيم الممنوع.
وفي بدايات العصر الإسلامي جرت تغيرات عميقة في بنية المجتمع وتعامله مع الأحداث، لكن الحب بقي لغة مشتركة على الرغم من تباين أساليب التعبير عنها بين الشعراء العذريين والشعراء الحسيين وحتى الإباحيين، وهذا الاختلاف بل والتعارض أحياناً يطرح تساؤلاً عن مبرره الاجتماعي.
سننتبه بداية إلى تفسير شاع في الدراسات الحديثة حول الشعر العذري، ويرى ذلك التفسير أن الشعر العذري في الحقيقة حبٌ قاتل قبل أن يكون حباً عفيفاً، فالقبيلة البدوية تمجد شاعرها الذي يذهب بالحب إلى حدوده القصـــوى ،وليس أنأى سفراً من الموت، وثمة تقليد نشأ نتيجة لذلك وهو الكتابة عن مصارع العشاق. وهذا نموذج تم ترحيله إلى النموذج الصوفي لتصبح العلاقة إلهية بعد أن كانت بشرية.
لكن علينا أيضاً أن ننتبه إلى أن شعراء الجاهلية مثلاً وبعض شعراء الحجاز قد قدموا نموذجاً حسياً للغزل، واستخدموا في بعض الحالات تعابير «قتالية» إذا جاز التعبير.
ولنستذكر بيت عنترة الشهير «ولقد ذكرتك والرماح نواهل/مني وبيض الهند تقطر من دمي» ،وهذا العنف الشعري يمكن تفسيره بالفكرة التالية: هناك قبائل شاركت في الفتوحات الإسلامية بشكل فعّال، وهذه القبائل هي التي تحدث شعراؤها عن الحب بشكل حسي أكثر، ومنهم كمثال الوليد بن يزيد صاحب الترسانة الإباحية الكبيرة في نصوصه، لكن الغزل العذري والعفيف ولد كنوع من الاحتجاج بين الشعراء الذين ينتمون لقبائل مهمّشة ولم تساهم في الفتوحات.
ترى هل كانت العذرية تياراً صميماً في شعر الغزل العربي، أم أنها ليست سوى صوت احتجاج صارخ في البرية؟