أبواب

سريع الذوبان..

أحمد حسن الزعبي

كانت تصر دعايات الحليب التلفزيونية على أن الحليب المروج له «سريع الذوبان»، معتبرة أن هذه الخاصية يجب إبرازها للمستهلك كميزة مهمة، مع أنه في الواقع تعتبر هذه الخاصية متوافرة حتى في أردأ أنواع الحليب.. لا بل لو قمت بتذويب بودرة «الجبس» نفسه لوجدتها هي أيضاً سريعة الذوبان، في ظل تحريك جيّد.

لكثرة ما سمعنا هذه العبارة؛ صار كل شيء في حياتنا سريع الذوبان، الفرح سريع الذوبان، الحزن سريع الذوبان، الطموح سريع الذوبان، التحدي سريع الذوبان، وحتى الكرامة الإنسانية طالها بعض الذوبان أيضاً.. حتى الأحداث المهمة وقضايا الرأي العام لم تعد تصمد أكثر من 48 ساعة حتى تذوب هي الأخرى من واجهات تفكيرنا، ومن محركات ألسنتنا.

كان حدث عرضي مثل تعسر ولادة «عنزة شامية» في حيّنا، يأخذ حيّزاً كبيراً من تفكيرنا وحديثنا ومشاعرنا، وقد يستغرق نسيانه والقفز إلى حدث آخر حولاً كاملاً، الجارات يذهبن إلى صاحبة «العنزة» لمواساتها في فقدان «السخل» «المتوفى»، ويذكرن قصصاً مشابهة، وكيف عوّض الله صاحبة العنزة بتوأمين في الحمل اللاحق، كما يزور رجال الحي بيت صاحب العنزة ليلاً للأخذ بالخاطر، ويصرفون من الدخان والقهوة ما يكفي لحل أعقد قضية عربية، كما لا يبخلون بعبارات الصبر والسلوان والقسمة والنصيب، وغيرها من مطاعيم التخدير الموضعي لتجاوز الأزمة.. كما أن أطفال الحي كانوا يطلون من البوابة الرئيسة ومن خلف السياج، ليتعرفوا إلى حال العائلة المكلومة بوفاة «وليد» العنزة.

من «بوكيمون جو» التي لم يعد أحد يذكرها، إلى القصف الروسي، إلى مجازر «داعش»، إلى الطفل عمران شاهد الصمت، إلى جدل البوركيني، إلى مشكلات «آي فون 7»، وانفجارات الـ«نوت 7» وسحبها من السوق.. هذه أحداث مرت سريعاً خلال أقل من شهر.. لا شيء يشغل حيّز انشغالنا أكثر من ساعات حتى يحين موعد تجديد الأخبار.. نسحب أصابعنا على شاشات هواتفنا سريعاً قافزين عن كثير من الجثث والدماء وصور التدمير.. لا يستوقفنا كل هذا الألم الذي نحطه في جيوبنا فور الانتهاء من التصفح، ولا توخزنا صيحات المتألمين بعد أن يتم طيها تحت سقف الشاشة الرئيسة.

كنا نبكي كثيراً كثيراً، عندما يموت «سخل العنزة الشامية».

ترى لِمَ تحجّرت عيوننا، عندما صارت تموت الأوطان؟!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر