أبواب

كشّ وطن..!

أحمد حسن الزعبي

يحمل كيساً على ظهره، فيه الجنود وأرض المعركة، فيه الفيل والحصان والقلعة.. فيه درع البطولة، ورغيف خبز قُضمت أطرافه ثم انسحبت أمامه الشهية.. يمشي بتثاقل وبطء كأنه يرغب في تضييع العمر، ثيابه لا تقل قذارة عن السياسة، سيجارته لا تغادر زاوية فمه أبداً، وشعره الطويل يغطي أذنيه لينهاه عن سماع صوت الرصاص، لحيته بيضاء غزيرة مثل الموت، وضحكته مجمّدة منذ نصف عقد من الزمان، كلما أعرقه الطريق الطويل رفع الطاقية الحمراء عن رأسه قليلاً، يحك شعره الملبّد ذات استراحة، ثم يمضي بتثاقل وبطء..

عماد حقي، بطل سورية في الشطرنج، أصيب أخيرا بالجنون، وبات هائماً على وجهه ككل الذين سبقوه في الذكاء.. من العقل أن يصاب المرء بالجنون عندما يرى الوطن قطعة من جحيم، لا أمل في الحياة، إما بياض الموت أو سواد الحريق.

عماد حقي، بطل سورية في الشطرنج، أصيب أخيراً بالجنون، وبات هائماً على وجهه ككل الذين سبقوه في الذكاء.. من العقل أن يصاب المرء بالجنون عندما يرى الوطن قطعة من جحيم، لا أمل في الحياة، إما بياض الموت أو سواد الحريق، عندما يستحيل الوطن إلى رقعة شطرنج، هي ملعب الأيادي الغريبة، هي الخطط المريبة، هي الصمت واللعب العميق، هي الشقيق الذي يقتل الشقيق، هي البيادق التي تزهق أرواحها بإصبعين، السبابة في واشنطن والإبهام في الكرملين.. من العقل أن تصاب بالجنون مادمت لست مخيّراً في البقاء أما أن تمضي عمودياً نحو اللجوء أو تتحرك قطرياً نحو الدماء.. الجنون هو عين العقل عندما تفشل كل الخطط الحربية التي كانت تدار على الرقعة، فلا خطة نابليون، ولا تعاليم كسباروف تمكّنت من إنهاء اللعبة، فكلما اقترب الثوار من بلاط القصر، أخرجوا ثعباناً من العلبة.

من العقل أن يصاب المرء بالجنون في وطن يحكمه الغرماء، لا أنت مع هؤلاء ولا يمكن أن تكون مع هؤلاء، وكلما قلنا له: «كش ملك»، «كش يا زعيم»، «كش يا رئيس الرؤساء».. كش يا «درة الزمن».. قال لنا: لا، بل.. كش وطن!

عماد حقي بطل سورية في الشطرنج والأول في بطولة أذكياء دمشق 2010، مازال يحمل آخر درع ربحه في كيس الجنون، يحمله على ظهره يسلّي به جنوده المعتقلين، يطعم سنابل البطولة المرسومة على الدرع لرأس الحصان، والقلادة المذهّبة مهداة لرأس الفيل المنشق عن «أبرهة الأشرم».. يجلس أمام مقهى الكمال وسط العاصمة دمشق، يفرد رقعة الشطرنج على الرصيف، يضع ما تبقى من الجنود والعتاد على الرقعة ويلعب وحيداً، فكيفما انتصر فيه شقٌ مهزوم.. وكيفما هُزم في شق منتصر.. ياه ما أعدل هذا الجنون.

على الرصيف، وقت الغروب فرد عماد رقعته.. وبدأ لعبة الانتصار.. جنود الخشب في مربعات الصمود، والزعيم محاصر تماماً بين جندي وفيل وقلعة.. اقترب عماد حقي من الأحجار المصنّمة، وقال بصوت منخفض جداً يملؤه الشجن: «كش ملك».. كش يا زعيم كش يا درة الزمن.. فهبت ريح أسقطت كل البيادق على الرقعة ليستمر النزيف على الرصيف.. لملم «حقي» جنوده ودرعه ورغيفه وهو يتمتم.. كش وطن!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر