5 دقائق

العلماء والمجتمع

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

المجتمعات الإنسانية كلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً برموزها الفكرية، سواء كانت متدينة بدين حق أو باطل، أو كانت نابذة للتدين، ولهذه الرموز أثر عجيب في المجتمعات، سلباً وإيجاباً، فإن لها أثراً في الحياة الفكرية تنويراً أو هدماً، ولها أثر في الحياة الاجتماعية صلاحاً أو فساداً، ولها أثر في الحياة الاقتصادية إيجاباً أو سلباً.. كل ذلك لأن الناس بفطرتهم قد جعلوهم محل الاقتداء، فإما أن يقودوهم إلى الرشاد، أو يحملوهم على الفساد.

• علماء الشرع لهم أثرهم المباشر في سلوك كل فرد، فهم الذين يربون فيهم الصدق.

وليس هناك دين عُني بالعلماء فيما لهم وعليهم كالإسلام، فإنه مع تفخيم شأن العلم والعلماء، تفخيماً لا يعرف مثله لغيرهم؛ نجده يحمِّلهم من المسؤولية ما لم يحمله غيرهم، فقد أخذ عليهم العهد بالبيان ونشر العلم وإفادة الناس وعدم كتمه والسعي للإصلاح، وحذرهم من التهاون في واجبهم نحو مجتمعاتهم وأممهم، وحمّلهم المسؤولية الكاملة عن مجتمعاتهم، إن هم فرطوا أو أهملوا ما يجب عليهم فعله، والذي يقرأ التاريخ القديم والحديث يدرك أن صلاح المجتمعات ديناً ودنيا إنما كان بصلاح العلماء، وفسادها بفسادهم، وذلك يَعني أن العناية بصناعة العلم والعلماء أمر في غاية الأهمية للمجتمعات.

ولقد جعل الإسلام كل العلوم الشرعية والتجريبية فرائض كفائية على المجتمعات، فأوجب على المجتمع أن يصنع علماء الشرع، وعلماء الطب، وعلماء الرياضيات والجبر، وعلماء الفلك، وعلماء الهندسة، وعلماء الفيزياء، وعلماء الكيمياء، وعلماء الأحياء، وكل علم يحتاجه المجتمع حاضراً ومستقبلاً، وإلا كان آثماً إثم ترك الفرض.

وكل هؤلاء العلماء لهم أثرهم الإيجابي عند صلاحهم، والسلبي عند فسادهم، فالأطباء إذا لم ينصحوا للخلق أضروا، والمهندسون إذا لم يقوموا بواجبهم أفسدوا، والفيزيائيون إذا لم يستخدموا مهاراتهم في إيجاد الطاقة الكهربائية للناس ظل الناس في حاجة ماسة.. وهكذا يقال في سائر العلوم التي لها رموز حاضرون. والذي يحملهم على بذل العلم النافع هو التدين الصالح الصادق، فإن للدين أثراً وازعاً في النصح والإخلاص في تطبيق العلم وإفادة الناس منه، وكثير من الناس لا يدرك خطر التفريط في صناعة هذه العلوم وتطبيقها، لعدم مساسها المباشر بسلوك الفرد في الغالب، وهي غفلة ينبغي التيقظ لها.

لكن علماء الشرع لهم أثرهم المباشر في سلوك كل فرد، فهم الذين يربون فيهم الصدق، وينمون فيهم الإخلاص والوطنية والولاء لله تعالى وولاة الأمر والوطن ومحبة الغير ونفع الآخر.. أو عكس ذلك، فكان الاعتناء بهم أهم، والعناية بهم أولى، حتى يكون حاضرنا ومستقبلنا آمناً من عبث العابثين وضلال المفسدين، وحتى يفيدونا في ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا؛ ولأن المجتمع لا يرحمهم إذا قصّروا أو أساءوا، فإن اللَّوم عليهم والمؤاخذة لهم تكون بقدر مسؤوليتهم، وحتى ننصفهم لابد من العناية بهم أيما عناية.

وقد كانت المجتمعات قبل حضارة اليوم تقوم بصناعة العلماء بجهدها الذاتي، فأنشأت كتاتيب وحلقات علم، من ريع أوقاف بسيطة، أو إسهامات مجتمعية متواضعة، ومع ذلك فقد كان لها الأثر العظيم في صناعة علماء بارزين أغنوا المجتمعات بنفعهم في دينهم وما يحتاجونه في دنياهم، أما اليوم فالدول تبذل جهوداً كبيرة لصناعة العلماء، إلا أن الكثير منها تخفق في ماهية العلم الذي ينبغي أن يكون مصنوعاً حتى يكون نافعاً، فنتج عن ذلك انحراف في الفكر، أدى إلى فساد في الأرض، فيا ليت الصناعة التي ننشدها تستفيد من الماضي التليد، لثبوت نفعه الأكيد.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر