5 دقائق

بضعة أمتار وقليل من الوقار

خالد الكمدة

في زمن التقديس المفرط للحرية الشخصية، صار الحديث عن الاحتشام تدخلاً مرفوضاً في شؤون الآخرين، وصارت الخلاعة تمدناً يُحظر نقده، مجاراته حضارة ومخالفته رجعية. في موجة المبالغة في ربط الحرية الشخصية بالتطور، تضاءلت في حساباتنا حريات الآخرين، حتى صارت هامشاً لا يُلتفت إليه ولا يُحاسب منتهكوه. في وقت ضاعت فيه الكثير من المفردات الأصيلة، لأن قواميس العولمة لا تترجمها، صرنا نبحث عن مفردات بديلة، نذكّر بها أنفسنا وأهلينا، بما غُيّب من قيم، وبما أهدر من معانٍ.

الحشمة فطرة لا ترتبط بدين ولا ثقافة ولا مجتمع، وهي جزء أصيل تميز به أول كائنين بشريين.

يمكنك أن تكون حراً بنفسك، وأن تفعل بها ما شئت، نعم، يمكنك أن تبخسها إن شئت، وأن تعرضها قلباً وقالباً للعبث على قارعة الطريق، يمكنك أن تُشْرِع أبواب روحك ليلتهم منها من يشاء بأفكار مسمومة، ويمكنك أن تستمتع بالتعري إذا كنت لا ترى فرقاً لقيمة جسدك عن بقية المخلوقات العارية على وجه الأرض. إذا كنت لا تدرك أن الاحتشام فلسفة، تنبع من روحك، وتحكي قصة تقديرك لذاتك، واحترامك للتكريم الذي حباك به خالقك، فلن تجدي معك النصائح، ولن تفلح القوانين واللوائح.

يغيب عن أذهان الكثيرين من المدافعين عن العري باعتباره حرية شخصية، وممن يتلقّف آراءهم من الغوغاء، أن الحشمة فطرة، لا ترتبط بدين ولا ثقافة ولا مجتمع، وهي جزء أصيل تميز به أول كائنين بشريين، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، بعد أن عُوقبا بكشف عوراتهما، ثم صارت أوراق التوت والتين بعدهما رمزاً لمن يبحث عن الستر. ولولا جمال الستر لما كنت ترى العيون تحدّق في أصابع من أسدلت على نفسها السواد، تنأى بها عن أن تكون وجبة مباحة لنظرات كل من مر أو حضر، لو لم يكن الستر تعظيماً وتجليلاً للمستور لما كنت ترى الجواهر النفيسة مخبأة في أدراج الصاغة، ويُعرض على الرفوف المقلَّد منها.

وعلى الرغم من خصوصية كل مجتمع وثقافة، يبقى مفهوم الحشمة في جوهره واحداً، بغض النظر عن التفاصيل، مفهومٌ يؤسس على توقيرك لنفسك، وتثمينك لها، على قيمتك التي تحددها أنت، وتفرض على الآخرين احترامها والاعتراف بها.

من أي ثقافة انحدرت، ومهما بلغت درجة تقديسك للتحرر وإيمانك بالتمدن، حذار أن تختلط لديك المفاهيم، وأن تبخس نفسك كبضاعة في سوق نخاسة، وأن تبخل عليها وعلى من حولك ببضعة أمتار وقليل من الوقار.

@KhaledAlKamda

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر