5 دقائق

لا.. ليس خيانة

خالد الكمدة

هذا الصوت الرصين الهادئ، وهذه الأحاديث الشيقة الثرية وحضورك الوقور الكريم، يسعدنا يا أبا محمد، لكنه لا يخفي انكسار عينيك وتبدد لمعانهما. بين الكلمات وفي رنين الضحكات، تستلقي دندنة حزينة، تلتحف بمشاغلك وتطمر نفسها بأحاديثك الغنية، تختبئ في الزحام، وتخرج رأسها بجسارة إذا ما حظيت بك في وحدتك. تخفيها ونكاد نراها، تنكرها، ووجودها أصبح بعضاً منك، يزحف إلى فرحك من حيث لا تدري، وينهك صلابتك التي ينعم بها الآخرون.

«لا.. ليس خيانة، أن تكمل رحلتك بعد محطة ذهبت فيها شريكة عمرك، ليس خيانة، ليس انتقاصاً من قدرها ولا تشويهاً لقصتك الجميلة معها».

هكذا نحن البشر، نغرق أنفسنا في المشاريع والمهام، في الاجتماعات والملفات، نضع رؤوسنا على الوسادة في آخر الليل منهكين من عمل لسنا في كثير من الأحيان شغوفين به، فقط لكي لا ينفرد بنا الحزن وحتى لا ندرك كم نحن وحيدون.. وحيدون إلا من بعض ذكريات نسجنا حولها كثيراً من الوهم، أحببناها وتعلقنا بها وعانقناها غير مدركين أننا لا نستطيع احتضان الذكريات.

الخطوة التالية، بعد رحيل شريكة عمر تقاسمت معها أهم مراحل حياتك، وأغناها، هو بلا شك قرار صعب. أحياناً نتمنى لو انتهينا مع نهاية رحلة الشريك في حياتنا، ولكننا لم ننته، وربما لايزال لدينا الكثير، أحياناً نغطي أعيننا ببرقع كبرقع الصقر، حتى لا نرى حياتنا بعده، نتابع سيرنا كما كنا معه، نسير إلى المستقبل وقلوبنا معلقة بالماضي، وكلما هاجمتنا الوحدة، أخرجنا من رؤوسنا حفنة من ذكريات وأعملنا مشاعرنا في ترميمها، نألم تارة، ونبكي تارة، ونبتسم لها تارة، ونشرع في الرقص معها تارة ولكن لا خصر للذكريات ليرسو عليه ساعدك.

لا.. ليس خيانة، أن تكمل رحلتك بعد محطة ذهبت فيها شريكة عمرك، ليس خيانة، ليس انتقاصاً من قدرها ولا تشويهاً لقصتك الجميلة معها، ليس إهانة للذكريات ولا إهمالاً لما صنعتماه معاً من أسرة وأبناء. أن تكمل حياتك مع شريكة أخرى في مرحلة جديدة من حياتك، تأصيل لجمال المرحلة الأولى منها يا أبا محمد، مداواة الجراح التي يحدثها الفقد، يحافظ على جمال صورة من فقدناه ويمنح لقلوبنا سبباً لتنبض في ما بقي لنا من الرحلة.

الوحدة لله فقط، هكذا تعلمنا منذ كنا صغاراً وهكذا برهنت لنا الحياة يوماً بعد يوم، لا غنى لأحد منا عن الرفيق، في حزنه وفرحه ومرضه ونجاحه، فلماذا نأسر أنفسنا بطوق الوحدة، ولماذا نحاصر بالأقاويل من يريد رفيقاً جديداً لاستكمال رحلته، ولماذا لا يرتدي الأبناء والأقرباء حذاء الرجل الوحيد ويسيرون في دربه قبل أن يطلقوا عليه الأحكام ويضعوا له الشروط.

KhaledAlKamda@

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

تويتر