أبواب

موزارت كان في غزة

يوسف ضمرة

قبل سنوات قليلة فقط، وأثناء حصار غزة، كان الموسيقار الأرجنتيني المولد دانيال بارنباوم، والإسرائيلي الانتماء، وحامل الجنسية الفلسطينية، يحيي حفلا موسيقيا في غزة.

كان اللافت في الحفل هو تلك الكلمات التي سبقته، والتي أطلقها الموسيقار المعروف؛

لا موزارت ولا سواه، ولا كل موسيقى الكون قادرة على أن تنسي أهل غزة هذا الحصار اللا أخلاقي واللا إنساني، الذي يضربه العدو الصهيوني عليهم، بتواطؤ معلن من قبل الأسرة الدولية.


ربما تكون الموسيقى لغة عالمية بين شعوب البشر، لكنها قطعاً لن تكون كذلك مع مجموعات تئن تحت شهوة الدم والقتل والتدمير، لأسباب بعضها علمي وتاريخي ومعروف، وبعضها الآخر يبدو غريباً أو غامضاً، ولا تفسير له.

فقد أعلن أن فلسطين أرض لشعبين، لأن كلاً منهما يمتلك رواية تاريخية صحيحة، وأن هذين الشعبين قادران على العيش معاً، وجعل من نفسه نموذجا للتعايش السلمي.

وهنا، علينا أن نتذكر أن بارنباوم أحيا حفلا في تل أبيب قبل ذلك، وقدم فيه مقطوعات للموسيقار الشهير فاغنر، متحديا الحظر الصهيوني المفروض على هذا الموسيقار العظيم، بتهمة النازية، واللا سامية، حيث أشيع أن هتلر كان يسوق اليهود إلى أفران الغاز المزعومة على أنغامه. يومها هوجم بارنباوم وقوطع من قبل عدد ممن يوصفون بالناجين من الهولوكوست، الذين أمطروه بالشتائم والسباب واللعنات.

والحقيقة هي أن الهولوكوست يشكل معضلة تاريخية لا مثيل لها في التاريخ. ومن دون الخوض في التفاصيل، فإننا نكتفي بالقول: إن بلاد الغرب «المولعة» بالديمقراطية والحرية، تجرم كل من يشكك في هذا الهولوكوست، كأن التشكيك فيه أو التساؤل عنه يمثل كفرا ما بعده كفر. ومن هنا كان بارنباوم شجاعاً في هذه المسألة، حينما تحدى عتاة الصهاينة المتشددين في تل أبيب، واصطحب فاغنر معه.

الفلسطينيون يحبون الموسيقى، ويحبون الفنون كلها، وفيهم العديد من الرموز الفنية والثقافية البارزة عربيا وعالميا، بل ونعرف أن المرحوم إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني والعالمي، كان عازفا وباحثا موسيقيا، وكان صديقا لبارنباوم نفسه. ولكنّ الفلسطينيين يحبون الحرية أولاً. وكما قال درويش من قبل:

إنا نحب الوردَ، لكنا نحب القمح أكثر.

ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر.

فلا موزارت ولا سواه، ولا كل موسيقى الكون قادرة على أن تنسي أهل غزة هذا الحصار اللا أخلاقي واللا إنساني، الذي يضربه العدو الصهيوني عليهم، بتواطؤ معلن من قبل الأسرة الدولية. ولا بارنباوم قادر على إقناعنا بالرواية التاريخية الصهيونية، لأنها رواية دموية في جوهرها، قائمة على روح عنصرية لا تقبل الآخر، بل تقصيه وتلغيه تماما. وكل محاولات التقريب بين الطرفين ليست سوى مضيعة للوقت، ومحاولة يائسة لتمرير الفيل من ثقب الإبرة. وما كل هذه الحركات الكرنفالية المغلفة بالثقافة والفن، إلا استعراضات بهلوانية تخلو من أي قيمة حقيقية، ما يعني أن جوهر الصراع سيظل قائما إلى أن ينتهي هذا الكيان العدواني كليا وإلى الأبد.

هذا الكلام كتبته في حينه ولم أنشره، واليوم أعود إليه مذكرا بارنباوم وسواه، بأن موزارت لم يتمكن من حماية الغزيين من طائرات الـ«إف 16» ودبابات الميركافا وقنابل الأعماق. ولم تتمكن سيمفونيات موزارت أو كونشيرتاته من توفير الحماية لمئات الأطفال الفلسطينيين والنساء.

ربما تكون الموسيقى لغة عالمية بين شعوب البشر، لكنها قطعا لن تكون كذلك مع مجموعات تئن تحت شهوة الدم والقتل والتدمير، لأسباب بعضها علمي وتاريخي ومعروف، وبعضها الآخر يبدو غريبا أو غامضا، ولا تفسير له.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر