مزاح.. ورماح

أمٌّ كثيرة!

أحمد حسن الزعبي

لو يرفع أحدنا «هاند بريك» الحياة لدقائق فقط حتى يراجع نفسه، فإنه حتماً سيكتشف أن سلوكنا عبارة عن سلوك «متورّم»، بسبب الإفراط في إشباع الحاجة، والإسراف في تسهيل السهل أصلاً، حتى نغرق في ضباب التبطّر والانكفاء على الذات دون أن نشعر، كل شيء حولنا ومعنا صار مبالغاً فيه، بدءاً من استهلاكنا، مروراً بمصروفنا أو استخدامنا مواقع التواصل، غضبنا، وحتى كسلنا صار مبالغاً فيه أيضاً.

عندما قرأت، أول من أمس، الخبر المؤلم والموجع، عن طعن ثلاثة أطفال من قبل خادمة المنزل، والشروع في قتلهم لو تمكّنت، أو لو ملك الشيطان قمرة قيادة عقلها في تلك اللحظة، سألت نفسي، ترى هل فعلاً أصبح من الضروري وجود هذا الكمّ الكبير من الخادمات والخدم والسائقين في كل بيت عربي؟ هل نحتاج فعلاً إلى جيش من الغرباء داخل أسوار الأسرة البسيطة؟ واحدة للتنظيف، وثانية للطبخ، وثالثة لرعاية الطلاب في مدارسهم وانتظارهم لحين العودة، بالإضافة إلى سائق للمنزل، وآخر لتوصيل الأولاد وإحضارهم من حضاناتهم وأكاديمياتهم!

لمَ كل هذا التعقيد؟ لقد كانت أمي تدير منزلنا الكبير وحدها، كانت أمّاً كثيرة، نجدها في كل تفصيل من تفاصيل البيت، تصحو باكراً قبلنا جميعاً، تشعل الوقود والحطب في فرن الحجر، وتستغل الوقت لحين نضوج النار تماماً، فتذهب لـ«تقريص» العجين المحضّر من الليلة الماضية، وقبل أن تنتهي، تسلق خمس بيضات، وتضع صحون الزيت والزيتون والزعتر واللبن برشاقة، ثم تحمل معجنها إلى الفرن المبني من الحجر والطين آخر حوش الدار، تخفض رأسها قليلاً، لأن الباب قصير وضيق، ليحافظ على حرارة الفرن، وتبدأ بالخبز، وعند الساعة السادسة والنصف صباحاً، تكون قد أنجزت كل شيء، تحمل الخبز على رأسها وتمضي إلى غرفتنا، قبل أن نسمع صوتها كنّا نشتمّ رائحتها ورائحة الخبز القادم إلينا من الفجر، فلا تأخذ جهداً في إيقاظنا، فقد أيقظنا قبلها الجوع ووجهها النقي، بعد ذلك تتوجه إلى المطبخ فتضع اللمسات الأخيرة على المائدة، لنفطر ونخرج إلى مدارسنا بوقت قياسي، قبل الخروج أيضاً كانت تتأكد من ملابسنا وكتبنا ومصروفنا وتدعو لنا الربّ أن يحفظنا.

كانت تدير المنزل بقلبها لا بجهدها، ترتب الغرف الطينية، وتعيد الملابس إلى مكانها، تسخّن الماء للغسيل، تغسل على يديها في بداية العمر، بعد ذلك تحضّر الغداء، يحين موعد رجوعنا من المدارس، تسكب الطعام للعائلة، تقطب الملابس «الممزوعة»، تحطّب الخشب لليوم التالي، تحضّر عجنة للغد الباكر، تقوم بعمل حلويات بسيطة على هامش وجودها في المطبخ لنتحلّى بها آخر الليل، وعند النوم لا تبخل علينا بقصة جديدة، وآخر ما تقوم به تسمع معنا المعوذتين وقِصار السور.

ومع كل هذا الجهد، لم نشعر يوماً بأنها تأفّفت أو تقاعست أو كانت تقوم بذلك مجبرة أو مكرهة أو مضطرة، كانت تقوم بذلك لأن القلب هو طاقتها ودافعها و«توربين» حياتها.

باختصار كنّا نشعر بأنها أمّ كثيرة، تملأ كل الزوايا والأماكن، وإذا ما لاحظت بعض ثقوب الملل في حياتها كانت ترفوها بابتسامة يانعة وتمضي.

أيتها السيدات الرائعات، البيوت لا تُضاء أبداً إلا بزيت المحبة، البيوت بحاجة إلى أمّ حقيقية، لا إلى «سوبر فايزر» برتبة أمّ!

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

تويتر