5 دقائق

علم الصنائع

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الإسلام دين العلم والمعرفة، وليس هناك دين سماوي، ولا تشريع وضعي اهتم بالعلم كما اهتم به الإسلام، فإنه افتتح به الوحي القرآني، وفرضه على النوع الإنساني، وأمر الأنبياء أهل الوحي المتجدد، والنور المتمدد، بالازدياد منه ما استطاعوا؛ لأن البشر مهما بلغوا فيه فما أوتوا منه إلا قليلاً. ونوه بأهله أيما تنويه؛ فعدل شهادتهم، ونسَقَهم مع شهادة الحق سبحانه، والملائكة الكرام، والرسل العظام، وجعلهم محل خشية الله تعالى، وموئلاً للناس عند حاجتهم للمعرفة والهدى.

وهو مختلف الشعَب والتخصصات كاختلاف البشر ألسنةً وألواناً، فما من شيء يحتاج إليه البشر في معاشهم أو معادهم، إلا وجب على الناس تعلمُه والتفوق فيه؛ لئلا يحار الناس في ما يحتاجون إليه من علم وضعي أو سماوي، مما يختص بدينهم أو دنياهم، فيتعين على الأمة المسلمة أن يكون فيها الطبيب الماهر، والمهندس البارع، والفيزيائي الدراك، والجيولوجي النحات، والنووي المخترع، والبناء القادر الأمين، والنجار الصادق. إلى غير ذلك من معارف الدنيا والآخرة، فلا يمارس أحد فناً إلا وهو من أهله وذويه، يشار إليه بالبنان، ويثني عليه كل لسان، وإلا كان مضيعاً أمانة ينوء بحملها الجبال.

فليس من الإسلام في شيء من يدعي المعارف وهي تتبرأ منه، بل ذلك يعتبر غشاً ذريعاً، وغُرما فظيعاً، وتقولٌ على العلم.

ومع وجوب تعلم هذه العلوم المختلفة، فإن ذلك لا يكفي حتى يكون ذلك العلم مقترناً بعلم الحلال والحرام الذي هو سياج كل علم، ومنتهى كل تخصص، فإن من عرف المعارف كلها لا يكون نافعاً لدينه وأمته حتى يكون عمله مقيداً بشرع الله تعالى الذي وضع لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وإن لم يكن علمه مقيداً بشرع الله المتين، فإنه يُفسد في الأرض أكثر مما يصلح، ويكون العلم وبالاً عليه وعلى مجتمعه، كما قال حافظ:

لا تحسبن العلم ينفع وحده ❊❊❊ ما لم يُتوج ربه بخلاق

فالمهندس الماهر إذا خلا من شعور المراقبة لله تعالى والخشية منه جعل الهندسة وسيلة للتكسب على حساب جودة العمل، فلا يبالي عندئذٍ بقواعد علمه، ولا مواضع وضعه، والبناء إذا عَرِي عن الأمانة لا يُهمه أن كان بناؤه على شفا جرف هار، أم على قواعد ثابتة تبقى آناء الليل وأطراف النهار، والطبيب إذا تخلى عن الوازع الأخلاقي وشرف المهنة لا يبالي بألم المريض ولا بتدهور صحة الصغير والكبير.

فكان علم الحلال والحرام السياج الذي يحمي شرف المعارف، ليقيم العالم علمه على وجه الكمال الذي يستطيعه من غير محاباة ولا مخاتلة، فلذلك نص علماء الشريعة على أن من واجبات كل ذي صنعة وحِرفة أن يعرف الأحكام الشرعية المتعلقة بصَنعته، حتى لا يقصر في واجب أو يفعل المحظور، وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه يمر على الباعة في السوق بدِرته ويقول: « لا يَبعْ في سوقنا إلا من تفقه في الدين ». وجاء رجل إلى علي رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أريد أن أتجر؟ فقال له: « الفقه قبل التجارة، إنه من اتجر قبل أن يفقه ارتطم في الربا ثم ارتطم ». وهكذا يقال لكل صانع ومحترف: العلم الشرعي قبل الممارسة، وإلا هلكت وأهلكت، فتكون من الخاسرين.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي .

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر